الطب االنبوي من زاد المعاد في هدي خير
العباد
محتويات
1 فصل
في مرض الأبدان
2 فصل
في أن طب الأبدان نوعان
3 فصل
في هدي النبي ﷺ في التداوي والأمر به
4 فصل
في الأحاديث التى تحث على التداوي وربط الأسباب بالمسببات
5 فصل
في هديه ﷺ في الاحتماء من التخم والزيادة في الأكل على قدر الحاجة والقانون الذي
ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
6 فصول
7 [في
علاج النبي ﷺ للمرضى بالأدوية الطبيعية وكان علاجه ﷺ للمرض ثلاثة أنواع]
8 فصول
في علاج النبي ﷺ للمرضى بالأدوية الطبيعية
9 فصل
في هديه في علاج الحمى
10 فصل
في هديه في علاج استطلاق البطن
11 فصل
في هديه في الطاعون وعلاجه والاحتراز منه
12 فصل
نهى النبي ﷺ عن الدخول إلى الأرض التى هو بها أو الخروج منها
13 فصل
في هديه ﷺ في داء الاستسقاء وعلاجه
14 فصل
في هديه ﷺ في علاج الجرح
15 فصل
في هديه ﷺ في العلاج بشرب العسل والحجامة والكي
16 فصل
في منافع الحجامة
17 فصل
في مواضع الحجامة وأوقاتها
18 فصل
في هديه ﷺ في أوقات الحجامة
19 فصل
في هديه ﷺ في قَطع العروق والكي
20 فصل
في هديه ﷺ في علاج الصرع
21 فصل
في صرع الأخلاط
22 فصل
في هديه ﷺ في علاج عرق النسا
23 فصل
في هديه ﷺ في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه
24 فصل
في هديه ﷺ في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
25 فصل
في الأمر الطبي للحرير
26 فصل
في هديه ﷺ في علاج ذات الجنب
27 فصل
في هديه ﷺ في علاج الصداع والشقيقة
28 فصل
في سبب صداع الشقيقة
29 فصل
في علاج صداع الشقيقة
30 فصل
في الحناء ومنافعه وخواصه
31 فصل
في هديه ﷺ في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب وأنهم لا
يكرهون على تناولهما
32 فصل
في هديه ﷺ في علاج العذرة وفى العلاج بالسعوط
33 فصل
في هديه ﷺ في علاج المفؤود
34 فى
هديه ﷺ في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها ويقوي نفعها
35 فصل
في هديه ﷺ في الحمية
36 فصل
في هديه ﷺ في علاج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة والحمية مما يهيج الرمد
37 فصل
في هديه ﷺ في علاج الخدران الكُلِّي الذي يجمد معه البدن
38 فصل
في هديه ﷺ في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب وإرشاده إلى دفع مضرات السموم
بأضدادها
39 فصل
في هديه ﷺ في علاج البثرة
40 فصل
[في هديه ﷺ في علاج الأورام والخراجات التى تبرأ بالبط والبزل]
41 فصل
في هديه ﷺ في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية
42 فصل
في هديه ﷺ في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم
43 فصلفى
هديه ﷺ في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده
44 فصل
في هديه ﷺ في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود
45 فصل
في هديه ﷺ في علاج السحر الذي سحرته اليهود به
46 فصل
في أن الأدوية الإلهية هي أنفع علاجات السحر
47 فصل
في هديه ﷺ في الاستفراغ بالقيء
48 فصل
في أن القيء أنفع في البلاد الحارة والإسهال أنفع في البلاد الباردة
49 فصل
في بعض فوائد القيء
50 فصل
في هديه ﷺ في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين
51 فصل
في هديه ﷺ في تضمين من طب الناس وهو جاهل بالطب
52 فصل
في هديه ﷺ في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها
53 فصل
في هديه ﷺ في المنع من التداوي بالمحرمات
54 فصل
في هديه ﷺ في علاج القمل الذي في الرأس وإزالته
55 فصول
في هديه ﷺ في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة والمركبة منها ومن
الأدوية الطبيعية
56 فصل
في هديه ﷺ في علاج المصاب بالعين
57 فصل
في أنواع المقصود بالعلاج النبوي لهذه العلَة
58 فصل
في ما يدفع به إصابة العين
59 فصل
في أمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره
60 فصل
في ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه
61 فصل
في الرقى التى ترد العين
62 فصل
في هديه ﷺ في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
63 فصل
في هديه ﷺ في رقية اللديغ بالفاتحة
64 فصل
في أن لتأثير الرقى بالفاتحة وغيرها سرا بديعا في علاج ذوات السموم
65 فصل
في هديه ﷺ في علاج لدغة العقرب بالرقية
66 فصل
في هديه ﷺ في رقية النملة
67 فصل
في هديه ﷺ في رقية الحية
68 فصل
في هديه ﷺ في رقية القرحة والجرح
69 فصل
في هديه ﷺ في علاج الوجع بالرقية
70 فصل
في هديه ﷺ في علاج حر المصيبة وحزنها
71 في
هديه ﷺ في علاج الكرب والهم والغم والحزن
72 فصل
في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
73 فصل
في هديه ﷺ في علاج الفزع والأرق المانع من النوم
74 فصل
في هديه ﷺ في علاج داء الحريق وإطفائه
75 فصل
في هديه ﷺ في حفظ الصحة
76 فصل
في هديه ﷺ في المطعم والمشرب
77 فصل
في هديه ﷺ في هيئة الجلوس للأكل
78 فصل
في هديه ﷺ في الشراب
79 فصل
وكان من هديه الشرب قاعدا هذا كان هديه المعتاد
80 فصل
في تدبيره ﷺ الملبس
81 فصل
في تدبيره ﷺ لأمر المسكن
82 فصل
في تدبيره ﷺ لأمر النوم واليقظة
83 فصل
في الجماع والباه وهدي النبي ﷺ فيه
84 فصل
في هديه ﷺ في علاج العشق
85 فصل
في هديه ﷺ في حفظ الصحة بالطيب
86 في
هديه ﷺ في حفظ صحة العين
87 فصل
في ذكر شيء من الأدوية والأغذية المفردة التى جاءت على لسانه ﷺ مرتبة على حروف
المعجم
88 حرف
الهمزة
89 حرف
الباء
90 حرف
التاء
91 حرف
الثاء
92 حرف
الجيم
93 حرف
الحاء
94 حرف
الخاء
95 فصل
في أنواع الخبز
96 حرف الدال
97 حرف
الذال
98 حرف
الراء
99 حرف
الزاي
100 حرف
السين
101 حرف
الشين
102 حرف
الصاد
103 حرف
الضاد
104 حرف
الطاء
105 حرف
العين
106 حرف
الغين
107 حرف
الفاء
108 حرف
القاف
109 حرف
الكاف
110 حرف
اللام
111 فصل
في لحوم الطير
112 فصل
في ضرر المداومة على أكل اللَّحم
113 فصل
في الألبان
114 حرف
الميم
115 حرف
النون
116 حرف
الهاء
117 حرف
الواو
118 حرف
الياء
119 فصول
متفرقة من الوصايا النافعة في العلاج والتدبير
120 فصل
في التحذير من الجمع بين البيض والسمك
121 فصل
في أن أربعة أشياء تمرض الجسم
122 فصل
في أن الحمية المفرطة في الصحة كالتخليط في المرض
123 فصل
في بعض المحاذر والوصايا الطبية
124 فصل
في أسرار وحقائق لا يعرف مقدارها إلا من حسن فهمه
في الطب النبوي
وقد أتينا على جُمَلٍ من هديه ﷺ في المغازى والسير
والبعوث والسرايا، والرسائل، والكتب التى كتب بها إلى الملوك ونوابهم.
ونحن نُتْبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي
تطبَّب به، ووصفه لغيره، ونبيِّنُ ما فيه من الحِكمة التى تَعْجَزُ عقولُ أكثرِ
الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طِبهم إليها كنِسبة طِب العجائز إلى طِبهم،
فنقول وبالله المستعان، ومنه نستمد الحَوْل والقوة:
المرض نوعان: مرضُ القلوب، ومرضُ الأبدان. وهما مذكوران
في القرآن.
ومرض القلوب نوعان: مرض شُبهة وشك، ومرض شَهْوة وغَىٍّ،
وكلاهما في القرآن. قال تعالى في مرض الشُّبهة: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضا}[1].
وقال تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلا}[2].
وقال تعالى في حَقِّ من دُعى إلى تحكيم القرآن والسُّنَّة،
فأبَى وأعرض: {وَإذَا دُعُواْ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إلَيْهِ
مُذْعِنِينَ * أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن
يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[3]، فهذا مرض الشُّبهات والشكوك.
وأما مرض الشهوات، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النبي
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ، إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ}[4]، فهذا مرض شَهْوة الزِّنَى.. والله أعلم.
فصل في مرض الأبدان
وأمّا مرض الأبدان.. فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى
الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [5][6]. وذكر مرض البدن في الحج والصومِ والوضوء لسرٍّ بديع يُبيِّن لك
عظمة القرآن، والاستغناءَ به لمن فهمه وعَقَله عن سواه، وذلك أن قواعد طِب الأبدان
ثلاثة: حِفظُ الصحة، والحِميةُ عن المؤذى، واستفراغُ المواد الفاسدة. فذكر سبحانه
هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة.
فقال في آية الصوم: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[7]، فأباح الفِطر للمريض لعذر المرض؛
وللمسافر طلبا لحفظ صِحته وقوته لئلا يُذْهِبهَا الصومُ في السفر لاجتماع شِدَّةِ
الحركة، وما يُوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلَّل؛ فتخورُ القوة
وتضعُف، فأباح للمسافر الفِطْرَ حفظا لصحته وقوته عما يُضعفها.
وقال في آية الحج: {فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضا أَوْ
بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك}[8]، فأباح للمريض، ومَن به أذَىً من رأسه،
من قمل، أو حِكَّة، أو غيرهما، أن يحلِق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة
الرديئة التى أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحتَ الشَّعر، فإذا حلق رأسه،
تفتحت المسامُ، فخرجت تلك الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يُقاس عليه كُلُّ استفراغ
يؤذى انحباسُهُ.
والأشياء التى يؤذى انحباسها ومدافعتها عشرة: الدَّمُ
إذا هاج، والمنىُّ إذا تبَّيغ، والبولُ، والغائطُ، والريحُ، والقيء، والعطاسُ،
والنومُ، والجوعُ، والعطشُ. وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسُه داء من الأدواء
بحسبه.
وقد نبَّه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخارُ المحتقِن
في الرأس على استفراغ ما هو أصعبُ منه؛ كما هي طريقةُ القرآن التنبيهُ بالأدنى على
الأعلى.
وأما الحِمية.. فقال تعالى في آية الوضوء: {وَإن كُنْتُم
مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ
لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيدا طَيِّبا}[9][10]، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى
التراب حِميةً له أن يُصيبَ جسدَه ما يُؤذيه، وهذا تنبيهٌ على الحِمية عن كل مؤذٍ
له من داخل أو خارج، فقد أرشد سُبحانه عِباده إلى أُصول الطب، ومجامعِ قواعده، ونحن
نذكرُ هَدْى رسول الله ﷺ في ذلك، ونبيِّنُ أنَّ هديه فيه أكمل هَدْىٍ.
فأمَّا طبُّ القلوب.. فمسلَّم إلى الرُّسلِ صلوات الله
وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاحَ القلوب أن
تكون عارِفة بربِّها، وفاطرِها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون
مُؤثِرةً لمرضاته ومحابِّه، متجنِّبةً لمَنَاهيه ومَسَاخطه، ولا صحة لها ولا حياةَ
ألبتةَ إلا بذلك، ولا سبيلَ إلى تلقِّيه إلا من جهة الرُّسل، وما يُظن من حصول صِحَّة
القلب بدون اتِّباعهم، فغلط ممن يَظُنُّ ذلك، وإنما ذلك حياةُ نفسه البهيمية
الشهوانية، وصِحَّتها وقُوَّتها، وحياةُ قلبه وصحته، وقوته عن ذلك بمعزل، ومَن لم
يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه
منغمِسٌ في بحار الظلمات.
فصل في أن طب الأبدان نوعان
وأمَّا طبُّ الأبدان.. فإنه نوعان:
نوعٌ قد فطر الله عليه الحيوانَ ناطقَه وبهيمَه؛ فهذا لا
يحتاج فيه إلى معالجة طبيب، كطب الجوع، والعطش، والبرد، والتعب بأضدادها وما
يُزيلها.
والثاني..
ما يحتاج إلى فكر وتأمل، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة
في المزاج، بحيثُ يخرج بها عن الاعتدال، إما إلى حرارة، أو بُرودة، أو يبوسة، أو
رطوبة، أو ما يتركب من اثنين منها، وهى نوعان: إما مادية، وإما كيفية، أعنى إما أن
يكون بانصِبَابِ مادة، أو بحدوث كيفية، والفرقُ بينهما أنَّ أمراضَ الكيفية تكون
بعد زوال المواد التى أوجبتها، فتزولُ موادها، ويبقى أثرُها كيفية في المزاج.
وأمراض المادة أسبابها معها تمدُّها، وإذا كان سببُ
المرض معه، فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولا، ثم في المرض ثانيا، ثم في الدواء ثالثا.
أو الأمراض الآلية وهى التى تُخرِجُ العضو عن هيئته، إما في شكل، أو تجويفٍ، أو
مجرىً، أو خشونةٍ، أو ملاسةٍ، أو عددٍ، أو عظمٍ، أو وضعٍ، فإن هذه الأعضاء إذا
تألَّفت وكان منها البدن سمى تألُّفها اتصالا، والخروجُ عن الاعتدال فيه يسمى
تفرقَ الاتصال، أو الأمراضِ العامة التى تعم المتشابهة والآلية.
والأمراضُ المتشابهة: هي التى يخرُج بها المزاجُ عن
الاعتدال، وهذا الخروجُ يسمى مرضا بعد أن يَضُرَّ بالفعل إضرارا محسوسا.
وهي على ثمانية أضرب: أربعة بسيطة، وأربعة مركَّبة،
فالبسيطةُ: البارد، والحار، والرَّطب، واليابس. والمركَّبةُ: الحارّ الرَّطب،
والحار اليابس، والبارد الرَّطب، والبارد اليابس، وهى إما أن تكون بانصباب مادة،
أو بغير انصباب مادة، وإن لم يضر المرض بالفعل يُسمى خروجا عن الاعتدال صحة.
وللبدن ثلاثةُ أحوال: حال طبيعية، وحال خارجة عن
الطبيعية، وحال متوسطة بين الأمرين. فالأولى: بها يكون البدن صحيحا، والثانية: بها
يكون مريضا. والحال الثالثة: هي متوسطة بين الحالتين، فإن الضد لا ينتقل إلى ضدِّه
إلا بمتوسط، وسببُ خروج البدن عن طبيعته، إمَّا من داخله، لأنه مركَّب من الحار والبارد،
والرطب واليابس، وإما من خارج، فلأن ما يلقاه قد يكونُ موافقا، وقد يكون غيرَ
موافق، والضررُ الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال، وقد
يكون مِن فساد العضو؛ وقد يكون من ضعف في القُوَى، أو الأرواح الحاملة لها، ويرجع
ذلك إلى زيادةِ ما الاعتدالُ في عدم زيادته، أو نقصانُ ما الاعتدالُ في عدم
نقصانه، أو تفرُّقِ ما الاعتدالُ في اتصاله، أو اتصالُ ما الاعتدالُ في تفرُّقه،
أو امتدادُ ما الاعتدالُ في انقباضه؛ أو خروجِ ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث
يُخرجه عن اعتداله.
فالطبيب:
هو الذي يُفرِّقُ ما يضرُّ بالإنسان جمعُه، أو يجمعُ فيه
ما يضرُّه تفرُّقه، أو ينقُصُ منه ما يضرُّه زيادَته، أو يزيدُ فيه ما يضرُّه
نقصُه، فيجلِب الصحة المفقودة، أو يحفظُها بالشكل والشبه؛ ويدفعُ العِلَّةَ الموجودة
بالضد والنقيض، ويخرجها، أو يدفعُها بما يمنع من حصولها بالحِمية، وسترى هذا كله
في هَدْى رسول الله ﷺ شافيا كافيا بحَوْل الله وقُوَّته، وفضله ومعونته
فصل في هدي النبي ﷺ في التداوي والأمر به
فكان من هديه ﷺ فعلُ التداوي في نفسه، والأمرُ به لمن
أصابه مرض من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن مِن هديه ولا هَدْى أصحابه استعمالُ هذه
الأدوية المركَّبة التى تسمى «أقرباذين»، بل كان غالبُ أدويتهم بالمفردات، وربما
أضافُوا إلى المفرد ما يعاونه، أو يَكْسِر سَوْرته، وهذا غالبُ طِبِّ الأُمم على
اختلاف أجناسِها من العرب والتُّرك، وأهل البوادى قاطبةً، وإنما عُنى بالمركبات الرومُ
واليونانيون، وأكثرُ طِبِّ الهند بالمفردات
وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا
يُعْدَل عنه إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يُعْدَل عنه إلى المركَّب.
قالوا:
وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحِمية، لم يُحاوَلْ
دفعه بالأدوية.قالوا: ولا ينبغي للطبيب أن يولعَ بسقى الأدوية، فإنَّ الدواء إذا لم
يجد في البدن داءً يُحلِّله، أو وجد داءً لا يُوافقه، أو وجد ما يُوافقه فزادت
كميتهُ عليه، أو كيفيته، تشبَّث بالصحة، وعبث بها، وأربابُ التجارِب من الأطباء
طِبُّهم بالمفردات غالبا، وهم أحد فِرَق الطبِّ الثلاث.
والتحقيقُ في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية، فالأُمة
والطائفة التى غالبُ أغذيتها المفردات، أمراضُها قليلة جدا، وطبُّها بالمفردات، وأهلُ
المدن الذين غلبتْ عليهم الأغذيةُ المركَّبة يحتاجون إلى الأدوية المركَّبة، وسببُ
ذلك أنَّ أمراضَهم في الغالب مركَّبةٌ، فالأدويةُ المركَّبة أنفعُ لها، وأمراضُ
أهل البوادى والصحارى مفردة، فيكفى في مداواتها الأدوية المفردة. فهذا برهانٌ بحسب
الصناعة الطبية.
ونحن نقول: إن ههنا أمرا آخرَ، نسبةُ طِب الأطبَّاء إليه
كنسبة طِبِّ الطُّرَقية والعجائز إلى طِبهم، وقد اعترف به حُذَّاقهم وأئمتُهم،
فإنَّ ما عندهم من العلم بالطِّب منهم مَن يقول: هو قياس. ومنهم مَن يقول: هو
تجربة. ومنهم مَن يقول: هو إلهامات، ومنامات، وحَدْسٌ صائب. ومنهم مَن يقول: أُخذ
كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذواتِ السموم تَعْمِدُ
إلى السِّرَاج، فَتَلغ في الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيَّاتُ إذا خرجت مِن بطون
الأرض، وقد عَشيت أبصارُها تأتى إلى ورق الرازيانج، فتُمِرُّ عيونها عليها. وكما
عُهد مِن الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذُكِرَ في
مبادئ الطب.
وأين يقع هذا وأمثالهُ من الوحى الذي يُوحيه الله إلى
رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم مِن الطب إلى هذا الوحى كنِسبة ما عندهم من
العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ههنا من الأدوية التى تَشفى من الأمراض ما لم
يهتد إليها عقولُ أكابر الأطباء، ولم تصل إليها عُلومُهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية
القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتمادِه على اللهِ، والتوكلِ عليه، والالتجاء
إليه، والانطراحِ والانكسارِ بين يديه، والتذلُّلِ له، والصدقةِ، والدعاءِ،
والتوبةِ، والاستغفارِ، والإحسانِ إلى الخلق، وإغاثةِ الملهوف، والتفريجِ عن
المكروب، فإنَّ هذه الأدوية قد جَرَّبْتها الأُممُ على اختلاف أديانها ومِللها،
فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علمُ أعلم الأطباء، ولا تجربتُه،
ولا قياسُه.
وقد جرَّبنا نحن وغيرنا من هذا أُمورا كثيرةً، ورأيناها
تفعلُ ما لا تفعل الأدويةُ الحسِّيَّة، بل تَصيرُ الأدوية الحسِّيَّة عندها بمنزلة
الأدوية الطُّرَقية عند الأطباء، وهذا جارٍ على قانون الحِكمة الإِلَهية ليس خارجا
عنها، ولكن الأسباب متنوعة، فإن القلبَ متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء
والدواء، ومدبِّر الطبيعة ومُصرِّفها على ما يشاء كانت له أدويةٌ أُخرى غير
الأدوية التى يُعانيها القلبُ البعيدُ منه المُعْرِضُ عنه، وقد عُلِمَ أنَّ الأرواحَ
متى قويت، وقويتْ النفسُ والطبيعةُ تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف يُنكر لمن
قويت طبيعتُه ونفسُه، وفرحت بقُربها مِن بارئها، وأُنسِها به، وحُبِّها له،
وتنعُّمِها بذِكره، وانصرافِ قواها كُلِّها إليه، وجَمْعِها عليه، واستعانتِها به،
وتوكلِها عليه، أن يكونَ ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوةُ دفعَ
الألم بالكلية، ولا يُنكِرُ هذا إلا أجهلُ الناس، وأغلظهم حجابا، وأكثفُهم نفسا،
وأبعدُهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السببَ الذي به أزالتْ
قراءةُ الفاتحة داءَ اللَّدْغَةِ عن اللَّديغ التى رُقى بها، فقام حتى كأنَّ ما به
قَلَبة.
فهذان نوعان من الطب النبوي، نحن بحَوْل الله نتكلم
عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومِنا القاصرة، ومعارِفنا المتلاشية جدا،
وبضاعتِنا المُزْجاة، ولكنَّا نستوهِبُ مَن بيده الخيرُ كلُّه، ونستمد من فضله،
فإنه العزيز الوهَّاب.
فصل في الأحاديث التى تحث على التداوي وربط الأسباب
بالمسببات
روى مسلم في صحيحه: من حديث أبى الزُّبَيْر، عن جابر بن
عبد الله، عن النبي ﷺ أنه قال: «لِكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَوَاءُ
الدَّاءِ، برأ بإذن اللهِ عَزَّ وجَلَّ».
وفي الصحيحين: عن عطاءٍ، عن أبى هريرة قال: قال رسول
الله ﷺ: «ما أنزل اللهُ مِنْ داءٍ إلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً».
وفي مسند الإمام أحمد: من حديث زياد بن عِلاقة عن
أُسامةَ ابن شَريكٍ، قال: «كنتُ عندَ النبي ﷺ، وجاءت الأعرابُ، فقالوا: يا رسول الله؛
أَنَتَدَاوَى؟ فقال: «نَعَمْ يا عبادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ
لم يضَعْ داءً إلا وَضَعَ لَهُ شِفاءً غيرَ داءٍ واحدٍ»، قالوا: ما هو؟ قال: «الهَرَمُ».
وفي لفظٍ: «إنَّ اللهَ لم يُنْزِلْ دَاءً إلا أنزل له
شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ».
وفي المسند: من حديث ابن مسعود يرفعه: «إنَّ اللهَ عَزَّ
وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلا أنزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ،
وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ».
وفي المسند والسنن: عن أبى خِزَامةَ، قال: قلتُ: يا رسول
اللهِ؛ أرأيْتَ رُقىً نَسْتَرْقِيهَا، ودواءً نتداوى به، وتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هل
تَرُدُّ من قَدَرِ اللهِ شيئا؟ فقال: «هى من قَدَرِ الله».
فقد تضمَّنت هذه الأحاديثُ إثبات الأسباب والمسبِّبات،
وإبطالَ قولِ مَن أنكرها، ويجوزُ أن يكون قوله«لكل داءٍ دواء»، على عمومه حتى
يتناول الأدواءَ القاتِلة، والأدواء التى لا يُمكن لطبيب أن يُبرئها، ويكون الله عَزَّ
وجَلَّ قد جعل لها أدويةً تُبرئها، ولكن طَوَى عِلمَها عن البَشَر، ولم يجعل لهم
إليه سبيلا، لأنه لا عِلم للخلق إلا ما علَّمهم الله، ولهذا علَّق النبي ﷺ
الشِّفاءَ على مصادفة الدواء لِلداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضِدّ، وكلُّ
داء له ضد من الدواء يعالَج بضدِّه، فعلَّق النبي ﷺ البُرءَ بموافقة الداء للدواء،
وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرد وجوده، فإنَّ الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو
زاد في الكمية على ما ينبغي، نَقَلَه إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يَفِ
بمقاومته، وكان العلاج قاصرا، ومتى لم يقع المُداوِى على الدواء، أو لم يقع الدواء
على الداء، لم يحصُل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى
كان البدنُ غيرَ قابل له، أو القوةُ عاجزةً عن حمله، أو ثَمَّ مانعٌ يمنعُ من تأثيره،
لم يحصل البُرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصلَ البرءُ بإذن الله ولا
بُدَّ، وهذا أحسنُ المحملَيْن في الحديث.
والثاني: أن يكون مِن العام المراد به الخاصُ، لا سيما
والداخل في اللَّفظ أضعاف أضعافِ الخارج منه، وهذا يُستعمل في كل لسان، ويكونُ
المراد أنَّ الله لم يضع داءً يَقْبَلُ الدواء إلا وضع له دواء، فلا يَدخل في هذا
الأدواء التى لا تقبل الدواء، وهذا كقوله تعالى في الرِّيح التى سلَّطها على قوم
عاد: { تُدَمِّرُ كُلَّ شيء بِأَمْرِ رَبِّهَا}[11] أى: كل شيء يقبلُ التدمير، ومِن شأن الرِّيح أن تدمِّره،
ونظائرُه كثيرة.
ومَن تأمَّل خلْقَ الأضداد في هذا العالَم، ومقاومةَ
بعضِها لبعض، ودفْعَ بعضِها ببعض، وتسليطَ بعضِها على بعض، تبيَّن له كمالُ قدرة
الرب تعالى، وحِكمتُه، وإتقانُه ما صنعه، وتفرُّدُه بالربوبية، والوحدانية،
والقهر، وأنَّ كل ما سواه فله ما يُضاده ويُمانِعُه، كما أنه الغنىُّ بذاته،
وكُلُّ ما سِواه محتاجٌ بذاته.
وفي الأحاديث الصحيحةِ الأمرُ بالتداوي، وأنه لا يُنَافى
التوكل، كما لا يُنافيه دفْع داء الجوع، والعطش، والحرّ، والبرد بِأضدادها، بل لا
تتم حقيقةُ التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نَصَبها الله مقتضياتٍ لمسبَّبَاتها
قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقَدَحُ في نفس التوكل، كما يَقْدَحُ في الأمر والحكمة،
ويضعفه من حيث يظن مُعطِّلُها أنَّ تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزا يُنافى
التوكلَ الذي حقيقتُه اعتمادُ القلب على الله في حصولِ ما ينفع العبد في دينه
ودنياه، ودفْعِ ما يضرُّه في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة
الأسباب؛ وإلا كان معطِّلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبدُ عجزه توكلا، ولا
توكُّلَه عجزا.
وفيها رد على مَن أنكر التداوي، وقال: إن كان الشفاء قد
قُدِّرَ، فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قُدِّرَ، فكذلك. وأيضا، فإنَّ المرض حصل
بقَدَر الله، وقدَرُ الله لا يُدْفَع ولا يُرد، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب
على رسول الله ﷺ. وأما أفاضلُ الصحابة، فأعلَمُ بالله وحكمته وصفاتِه من أن
يُورِدوا مِثْلَ هذا، وقد أجابهم النبي ﷺ بما شفى وكفى، فقال: هذه الأدويةُ
والرُّقَى والتُّقَى هي مِن قَدَر الله، فما خرج شيء عن قَدَره، بل يُرَدُّ
قَدَرُه بقَدَرِه، وهذا الرَّدُّ مِن قَدَره. فلا سبيلَ إلى الخروج عن قَدَرِه
بوجه ما، وهذا كردِّ قَدَرِ الجوع، والعطش، والحرِّ، والبرد بأضدادها، وكردِّ
قَدَرِ العدُوِّ بالجهاد، وكلٌ من قَدَرِ الله: الدَافِعُ، والمدفوعُ، والدَّفْعُ.
ويقال لمُوردِ هذا السؤال: هذا يُوجبُ عليك أن لا تُباشر سببا من
الأسباب التى تَجلِبُ بها منفعة، أو تَدَفعُ بها مضرَّة، لأن المنفعة والمضرَّة إن
قُدِّرَتا، لم يكن بدٌ من وقوعهما، وإن لم تُقدَّر لم يكن سبيلٌ إلى وقوعهما، وفى
ذلك خرابُ الدِّين والدنيا، وفسادُ العالَم، وهذا لا يقوله إلا دافعٌ للحق،
معانِدٌ له، فيَذكر القَدَرَ ليدفعَ حُجةَ المُحقِّ عليه، كالمشركين الذين قالوا:
{لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا}[12]، و{ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن
دُونِهِ مِن شيء نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا}[13]، فهذا قالوه دفعا لحُجَّة الله عليهم
بالرُّسُل.
وجوابُ هذا السائل أن يُقال: بقى قسمٌ ثالث لم تذكره،
وهو أنَّ الله قَدَّر كذا وكذا بهذا السبب؛ فإن أتيتَ بالسَّبب حَصَلَ المسبَّبُ،
وإلا فلا.
فإن قال: إن كان قَدَّر لى السَّببَ، فعلتُه، وإن لم
يُقدِّره لى لم أتمكن من فعله.
قيل: فهل تقبل هذا الاحتجاجَ من عبدِك، وولدِك، وأجيرِك إذا احتَجَّ
به عليك فيما أمرتَه به، ونهيتَه عنه فخالَفَك؟، فإن قبلته، فلا تَلُمْ مَنْ عصاك،
وأخذ مالك، وقَذفَ عِرْضَك، وضيَّع حقوقَك، وإن لم تَقبلْه، فكيف يكونُ مقبولا منك
في دفع حُقوق الله عليك.. وقد روى في أثر إسرائيلى: «أنَّ إبراهيمَ الخليلَ قال:
يا ربِّ؛ مِمَّن الدَّاء؟ قال: مِنِّى. قال: فمِمَّنْ الدَّوَاءُ؟ قال: منى. قال:
فَمَا بَالُ الطَّبِيبِ؟ قال:رَجُلٌ أُرْسِلُ الدَّوَاءَ عَلَى يَدَيْهِ»
وفي قوله ﷺ: «لكلِّ داءٍ دواء»،
تقويةٌ لنفس المريضِ والطبيبِ، وحثٌ على طلبِ ذلك الدواءِ والتفتيشِ عليه، فإنَّ
المريض إذا استشعرتْ نفسُه أن لِدائه دواءً يُزيله، تعلَّق قلبُه بروح الرجاء،
وبَردت عنده حرارة اليأس، وانفتَحَ له بابُ الرجاء، ومتى قَويتْ نفسُه انبعثتْ
حرارتُه الغريزية، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية،
ومتى قويتْ هذه الأرواح، قويت القُوَى التى هي حاملةٌ لها، فقهرت المرضَ
ودفعتْه.وكذلك الطبيبُ إذا علم أنَّ لهذا الداءِ دواءً أمكنه طلبُه والتفتيشُ
عليه. وأمراضُ الأبدان على وِزَانِ أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل
له شفاءً بضده، فإنْ علمه صاحبُ الداء واستعمله، وصادف داءَ قلبِه، أبرأه بإذن
الله تعالى.
فصل في هديه ﷺ في الاحتماء من التخم والزيادة في الأكل
على قدر الحاجة والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره: عنه ﷺ أنه قال: «ما مَلأَ آدَمِىٌ
وِعاءً شَرا مِنْ بطنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ لُقيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإنْ كان
لا بُدَّ فَاعلا، فَثُلُتٌ لِطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرَابِه، وثُلُثٌ لِنَفَسِه».
الأمراض نوعان: أمراضٌ مادية تكون عن زيادة مادة أفرطتْ
في البدن حتى أضرَّتْ بأفعاله الطبيعية، وهى الأمراضُ الأكثريةُ، وسببها إدخالُ
الطعام على البدن قبل هضم الأوَّل، والزيادةُ في القدر الذي يَحتاج إليه البدن،
وتناولُ الأغذيةِ القليلةِ النفع، البطيئةِ الهضم، وإلاكثارُ من الأغذية المختلفة التراكيب
المتنوعة، فإذا ملأ الآدمىُّ بطنه من هذه الأغذية، واعتاد ذلك، أورثته أمراضا
متنوعة، منها بطئُ الزوالِ وسريعُه، فإذا توسَّط في الغذاء، وتناول مِنه قدرَ
الحاجة، وكان معتدلا في كميته وكيفيته، كان انتفاعُ البدن به أكثرَ من انتفاعه
بالغذاء الكثير ومراتبُ الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبة الحاجة. والثانية: مرتبة
الكفاية. والثالثة: مرتبة الفضلةُ. فأخبر النبي ﷺ: أنه يكفيه لُقيماتٌ يُقِمْن صُلْبَه،
فلا تسقط قوَّتُه، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها، فليأكلْ في ثُلُثِ بطنه، ويدع
الثُلُث الآخر للماء، والثالثَ للنَفَس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإنَّ
البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النَفَس،
وعرض له الكربُ والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من
فساد القلب، وكسلِ الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التى يستلزمها الشِّبَعُ،
فامتلاءُ البطن من الطعام مضرٌ للقلب والبدن. هذا إذا كان دائما أو أكثريا. وأما
إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي ﷺ من اللَّبن، حتى
قال: والذي بعثكَ بالحقِّ لا أجدُ له مَسْلَكا، وأكل الصحابةُ بحضرته مرارا حتى
شَبِعوا
والشِّبَعُ المفرط يُضعف القُوَى والبدن، وإنْ أخصبَه،
وإنما يَقوَى البَدَنُ بحسب ما يَقْبَلُ من الغذاء، لا بِحَسَبِ كثرته.
ولما كان في الإنسان جزءٌ أرضىّ، وجزءٌ هوائىّ، وجزءٌ
مائىّ، قسم النبي ﷺ، طعامَه وشرابَه ونَفَسَه على الأجزاء الثلاثة فإن قيل: فأين
حظ الجزء الناري؟
قيل: هذه مسألةٌ تكلَّم فيها الأطباء، وقالوا: إنَّ في
البدن جزءا ناريا بالفعل، وهو أحد أركانه وأسْطُقْسَاته.
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم
وقالوا: ليس في البدن جزءٌ ناري بالفعل، واستدلوا بوجوه:
أحدُها:
أنَّ ذلك الجزء الناري إما أن يُدعى أنه نزل عن الأثير،
واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية، أو يقال: إنه تولَّد فيها وتكوَّن، والأول مستبعَد
لوجهين، أحدهما: أنَّ النار بالطبع صاعدة، فلو نزلت، لكانت بقاسِرٍ من مركزها إلى
هذا العالَم. الثاني: أن تلك الأجزاء النارية لا بُدَّ في نزولها أن تعبُرَ على
كُرة الزَّمهرير التى هي في غاية البرد، ونحن نشاهد في هذا العالَم أنَّ النار
العظيمة تنطفئ بالماء القليل، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكُرة الزَّمهرير
التى هي في غاية البرد ونهاية العِظَم، أولى بالانطفاء.
وأما الثاني: وهو أن يقال: إنها تكوَّنت ههنا فهو أبعد
وأبعد، لأن الجسم الذي صار نارا بعد أن لم يكن كذلك، قد كان قبلَ صيرورته إما
أرضا، وإما ماءً، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة، وهذا الذي قد صار
نارا أولا، كان مختلطا بأحد هذه الأجسام، ومتصلا بها، والجسم الذي لا يكون نارا
إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحدٍ منها، لا يكونُ مستعدا لأن ينقلب نارا
لأنه في نفسه ليس بنار، والأجسام المختلطة باردة، فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا؟
فإن قلتم: لِمَ لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه
الأجسام، وتجعلها نارا بسبب مخالطتها إياها؟
قلنا: الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام
فيالأول
فإن قلتم: إنَّا نرى مِن رش الماء على النَّوَرَة
المطفأة تنفصل منها نار، وإذا وقع شعاعُ الشمس على البِلَّورة ظهرت النار منها،
وإذا ضربنا الحجر على الحديد، ظهرت النار، وكل هذه النارية حدثت عند الاختلاط،
وذلك يُبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضا.
قال المنكرون: نحن لا نُنْكِرُ أن تكونَ المُصاكَّة
الشديدة محدثةً للنار، كما في ضرب الحجارة على الحديد، أو تكونَ قوةُ تسخين الشمسِ
محدثةً للنار، كما في البِلَّورة، لكنَّا نستبعد ذلك جدا في أجرام النبات
والحيوان، إذ ليس في أجرامها من الاصطكاك ما يُوجب حدوثَ النار، ولا فيها مِن
الصفاء والصِّقال ما يبلغ إلى حدِّ البِلَّورة، كيف وشعاعُ الشمس يقع على ظاهرها،
فلا تتولَّد النار ألبتة، فالشُّعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار؟
الوجه الثاني: في أصل المسألة: أنَّ الأطباء مُجْمِعون على أن الشرابَ
العتيقَ في غاية السخونة بالطبع، فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية،
لكانت محالا إذ تلك الأجزاءُ النارية مع حقارتها كيف يُعْقَل بقاؤها في الأجزاء
المائية الغالبة دهرا طويلا، بحيث لا تنطفئ مع أنَّا نرى النار العظيمة تُطفأ
بالماء القليل.
الوجه الثالث: أنه لو كان في الحيوان والنبات جزءٌ ناري
بالفعل، لكان مغلوبا بالجزء المائى الذي فيه، وكان الجزءُ الناري مقهورا به،
وغلبةُ بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضى انقلابَ طبيعة المغلوب إلى طبيعة
الغالب، فكان يلزمُ بالضرورة انقلابُ تلك الأجزاء النارية القليلة جدا إلى طبيعة
الماء الذي هو ضد النار.
الوجه الرابع: أنَّ الله سبحانه وتعالى ذكر خَلْق الإنسان
في كتابه في مواضع متعددة، يُخبِرُ في بعضها أنه خلقه من ماء، وفى بعضها أنه
خَلَقَهُ من تراب، وفى بعضها أنه خلقه من المركَّب منهما وهو الطين، وفى بعضها أنه
خَلَقَهُ من صَلصال كالفَخَّار، وهو الطينُ الذي ضربته الشمسُ والرِّيح حتى صار
صَلصالا كالفَخَّار، ولم يُخْبِر في موضع واحد أنه خلقه من نار، بل جعل ذلك خاصيةَ
إبليس.
وثبت في صحيح مسلم: عن النبي ﷺ قال: «خُلِقَتْ الملائكةُ
من نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ من مَارجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مما وُصِفَ لكم».
وهذا صريح في أنه خُلِقَ مما وصفه الله في كتابه فقط، ولم
يَصِفْ لنا سبحانه أنه خلقه من نار، ولا أن في مادته شيئا من النار
الوجه الخامس: أنَّ غاية ما يستدلون به ما يُشاهدون مِن
الحرارة في أبدان الحيوان، وهى دليل على الأجزاء النارية، وهذا لا يدل، فإن أسباب
الحرارة أعمُّ من النار، فإنها تكون عن النار تارة، وعن الحركة أُخرى، وعن انعكاس الأشعة،
وعن سخونة الهواء، وعن مجاورة النار، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا، وتكون عن
أسباب أُخَر، فلا يلزم من الحرارة النار.
قال أصحاب النار: من المعلوم أنَّ التراب والماء إذا
اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضى طبخَهما وامتزاجَهما، وإلا كان كُلٌ منهما غير
ممازج للآخر، ولا متحدا به، وكذلك إذا أَلقينا البذرَ في الطين بحيث لا يصل إليه
الهواءُ ولا الشمسُ فسد، فلا يخلو، إما أن يحصل في المركَّب جسم مُنْضِج طابخ
بالطبع أو لا، فإن حصل، فهو الجزء الناري، وإن لم يحصل، لم يكن المركَّبُ مسخنا بطبعه،
بل إن سخن كان التسخين عرضيا، فإذا زال التسخينُ العَرَضى، لم يكن الشيء حارا في
طبعه، ولا في كيفيته، وكان باردا مطلقا، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارا
بالطبع، فعلمنا أن حرارتها إنما كانت، لأن فيها جوهرا ناريا.
وأيضا.. فلو لم يكن في البدن جزءٌ مسخن لوجب أن يكون في نهاية
البرد، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد، وكانت خالية عن المعاون والمعارض، وجب
انتهاءُ البرد إلى أقصى الغاية، ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد، لأن
البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثلَه، والشيء لا ينفعِلُ عن مثله، وإذا لم
ينفعِلْ عنه لم يُحِسَّ به، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه، وإن كان دونه فعدمُ
الانفعال يكون أولى، فلو لم يكن في البدن جزءٌ مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد،
ولا تألَّم به. قالوا: وأدلتكم إنما تُبْطِلُ قولَ مَن يقول: الأجزاء النارية باقية
في هذه المركبات على حالها، وطبيعتها النارية، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول: إنَّ صورتها
النوعية تفسد عند الامتزاج.
قال الآخرون: لِمَ لا يجوز أن يُقال: إن الأرض والماء
والهواء إذا اختلطت، فالحرارةُ المنضجة الطابخة لها هي حرارةُ الشمس وسائرِ
الكواكب، ثم ذلك المركَّب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة
السخونة نباتا كان أو حيوانا أو معدنا، وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التى
في المركَّبات هي بسبب خواص وقُوَى يُحدِثها الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من
أجزاء نارية بالفعل؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان ألبتة، وقد اعترف جماعة
من فضلاء الأطباء بذلك
وأما حديث إحساس البدن بالبرد، فنقول: هذا يدل على أنَّ
في البدن حرارةً وتسخينا، ومَن يُنكر ذلك؟ لكن ما الدليلُ على انحصار المسخن في
النار؟ فإنه وإن كان كل نار مسخنا، فإن هذه القضيةَ لا تنعكس كليةً بل عكسُها
الصادقُ: بعضُ المسخن نار.
وأما قولكم بفساد صورة النَّار النوعية، فأكثر الأطباء
على بقاء صورتها النوعية، والقولُ بفسادها قولٌ فاسد قد اعترف بفساده أفضلُ
متأخِّرِيكم، في كتابه المسمى ب «الشفاء»، وبرهَنَ على بقاء الأركان أجمع على
طبائعها في المركَّبات.. وبالله التوفيق.
فصول
[في علاج النبي ﷺ للمرضى بالأدوية الطبيعية وكان علاجه ﷺ
للمرض ثلاثة أنواع]
أحدها: بالأدوية الطبيعية.
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركَّب من الأمرين.
ونحن نذكر الأنواع الثلاثةَ من هديه ﷺ، فنبدأ بذكر
الأدوية الطبيعية التى وصفها واستعملها، ثم نذكر الأدوية الإلهية، ثم المركَّبة.
وهذا إنما نُشير إليه إشارة، فإنَّ رسول الله ﷺ إنما
بُعِثَ هاديا، وداعيا إلى الله، وإلى جنَّته، ومعرِّفا بالله، ومبيِّنا للأُمة
مواقع رضاه وآمرا لهم بها، ومواقِعَ سَخَطِه وناهيا لهم عنها، ومُخْبِرَهم أخبارَ
الأنبياء والرُّسُل وأحوالهم مع أُممهم، وأخبار تخليق العالَم، وأمر المبدأ
والمعاد، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها، وأسباب ذلك.
وأما طبُّ الأبدان.. فجاء من تكميل شريعته، ومقصودا
لغيره، بحيث إنما يُستعمل عند الحاجة إليه، فإذا قدر على الاستغناء عنه، كان صرْفُ
الهممِ والقُوَى إلى علاج القلوب والأرواح، وحفظِ صحتها، ودَفْعِ أسقامِها،
وحِمايتها مما يُفسِدُها هو المقصودُ بالقصد الأول، وإصلاحُ البدن بدون إصلاح
القلب لا ينفع، وفسادُ البدن مع إصلاح القلب مَضَرَّتُه يسيرة جدا، وهى مَضَرَّةٌ
زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة.. وبالله التوفيق.
ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصول في علاج النبي ﷺ للمرضى بالأدوية الطبيعية
وكان علاجه ﷺ للمرض ثلاثة أنواع
أحدها: بالأدوية الطبيعية.
والثاني: بالأدوية الإلهية.
والثالث: بالمركَّب من الأمرين.
ونحن نذكر الأنواع الثلاثةَ من هديه ﷺ، فنبدأ بذكر
الأدوية الطبيعية التى وصفها واستعملها، ثم نذكر الأدوية الإلهية، ثم المركَّبة.
وهذا إنما نُشير إليه إشارة، فإنَّ رسول الله ﷺ إنما
بُعِثَ هاديا، وداعيا إلى الله، وإلى جنَّته، ومعرِّفا بالله، ومبيِّنا للأُمة
مواقع رضاه وآمرا لهم بها، ومواقِعَ سَخَطِه وناهيا لهم عنها، ومُخْبِرَهم أخبارَ
الأنبياء والرُّسُل وأحوالهم مع أُممهم، وأخبار تخليق العالَم، وأمر المبدأ
والمعاد، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها، وأسباب ذلك.
وأما طبُّ الأبدان.. فجاء من تكميل شريعته، ومقصودا
لغيره، بحيث إنما يُستعمل عند الحاجة إليه، فإذا قدر على الاستغناء عنه، كان صرْفُ
الهممِ والقُوَى إلى علاج القلوب والأرواح، وحفظِ صحتها، ودَفْعِ أسقامِها،
وحِمايتها مما يُفسِدُها هو المقصودُ بالقصد الأول، وإصلاحُ البدن بدون إصلاح
القلب لا ينفع، وفسادُ البدن مع إصلاح القلب مَضَرَّتُه يسيرة جدا، وهى مَضَرَّةٌ
زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة.. وبالله التوفيق.
فصل في هديه في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين: عن نافع، عن ابن عمرَ، أن النبي ﷺ قال:
«إنَّمَا الحُمَّى أو شِدَّةُ الحُمَّى مِنْ فَيحِ جَهنمَ، فَأبْرِدُوُهَا
بِالْمَاءِ».
وقد أشكل هذا الحديثُ على كثير من جهلة الأطباء، ورأوه
منافيا لدواء الحُمَّى وعلاجِها، ونحن نُبيِّنُ بحَوْل الله وقوته وجهَه وفقهه
فنقول:
خطابُ النبي ﷺ نوعان: عامٌ لأهل الأرض، وخاصٌ ببعضهم،
فالأول: كعامة خطابه، والثاني: كقوله: «لاَ تَسْتَقْبلُوا القِبلَةَ بغائطٍ ولاَ
بَولٍ، ولاَ تَسْتَدْبِروهَا، ولكنْ شرِّقوا، أوْ غَرِّبُوا». فهذا ليس بخطاب لأهل
المشرق والمغرب ولا العراق، ولكن لأهل المدينة وما على سَمْتِها، كالشام وغيرها.
وكذلك قوله: «مَا بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ قبلَةٌ».
وإذا عُرف هذا، فخطابُه في هذا الحديث خاصٌ بأهل الحجاز،
وما والاهم، إذ كان أكثرُ الحُمَّياتِ التى تَعرض لهم من نوع الحُمَّى اليومية
العَرَضية الحادثةِ عن شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعُها الماء البارد شُربا
واغتسالا، فإن الحُمَّى حرارةٌ غريبة تشتعل في القلب، وتنبثُّ منه بتوسط الروح
والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن، فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية.
وهي تنقسم إلى قسمين:
عَرَضية: وهى الحادثةُ إما عن الورم، أو الحركة، أو
إصابةِ حرارة الشمس، أو القَيْظ الشديد... ونحو ذلك.
ومرضية:
وهى ثلاثةُ أنواع، وهى لا تكون إلا في مادة أُولى، ثم
منها يسخن جميع البدن. فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حُمَّى يوم، لأنها في
الغالب تزول في يوم، ونهايتُها ثلاثة أيام، وإن كان مبدأُ تعلقها بالأخلاط سميت
عفنية، وهى أربعة أصناف: صفراوية، وسوداوية، وبلغمية، ودموية. وإن كان مبدأ تعلقها
بالأعضاء الصلبة الأصلية، سميت حُمَّى دِق، وتحت هذه الأنواع أصنافٌ كثيرة.
وقد ينتفع البدن بالحُمَّى انتفاعا عظيما لا يبلغه
الدواء، وكثيرا ما يكون حُمَّى يوم وحُمَّى العفن سببا لإنضاج موادَّ غليظة لم تكن
تنضِجُ بدونها، وسببا لتفتح سُدَدٍ لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة.
وأما الرَّمدُ الحديثُ والمتقادمُ، فإنها تُبرئ أكثَر
أنواعه بُرءًا عجيبا سريعا، وتنفع من الفالج، واللَّقْوَة، والتشنج الامتلائى،
وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة.
وقال لى بعض فضلاء الأطباء: إنَّ كثيرا من الأمراض
نستبشر فيها بالحُمَّى، كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحُمَّى فيه أنفَع من
شرب الدواء بكثير، فإنها تُنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضُرُّ بالبدن، فإذا
أنضجتها صادفها الدواء متهيئةً للخروج بنضاجها، فأخرجها، فكانت سببا للشفاء.
وإذا عُرِفَ هذا، فيجوز أن يكون مرادُ الحديثِ من أقسام
الحُمَّيات العرضية، فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد، وسقى الماء
البارد المثلوج، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر، فإنها مجردُ كيفية حارة
متعلقة بالرَّوح، فيكفى في زوالها مجردُ وصول كيفية باردة تُسكنها، وتُخمد لهبها
من غير حاجة إلى استفراغ مادة، أو انتظار نضج.
ويجوز أن يُراد به جميعُ أنواع الحُمَّيات، وقد اعترف
فاضل الأطباء جالينوس: بأنَّ الماء البارد ينفع فيها، قال في المقالة العاشرة من
كتاب «حيلة البرء»: «ولو أنَّ رجلا شابا حسنَ اللَّحم، خِصَب البدن في وقت
القَيْظ، وفى وقت منتهى الحُمَّى، وليس في أحشائه ورم، استحمَّ بماءٍ بارد، أو سبح
فيه، لانتفع بذلك». وقال: «ونحن نأمر بذلك بلا توقف».
وقال الرازي في كتابه الكبير: «إذا كانت القوة قوية،
والحُمَّى حادة جدا، والنضجُ بَيِّنٌ ولا وَرَمَ في الجوف، ولا فَتْقَ، ينفع الماء
البارد شربا، وإن كان العليل خِصَب البدن والزمان حارٌ، وكان معتادا لاستعمال
الماء البارد من خارج، فليؤذَنْ فيه».
وقوله: «الحُمَّى مِن فَيْحِ جهنَم»، هو شدة لهبها،
وانتشارُها، ونظيرُه قوله: «شِدَّةُ الحرِّ مِن فَيْحِ جَهنمَ»، وفيه وجهان.
أحدهما:
أنَّ ذلك أَنموذَجٌ ورقيقةٌ اشتُقَتْ من جهنم ليستدلَّ
بها العبادُ عليها، ويعتبروا بها، ثم إنَّ الله سبحانه قدَّر ظهورها بأسبابٍ
تقتضيها، كما أنَّ الروحَ والفرح والسرور واللَّذة من نعيم الجنَّة أظهرها الله في
هذه الدار عِبرةً ودلالةً، وقدَّر ظهورَها بأسباب توجبها.
والثاني: أن يكون المراد التشبيه، فشَبَّه شدة الحُمَّى
ولهبها بفَيْح جهنم وشبَّه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار،
وأنَّ هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفَيْحها، وهو ما يصيب مَن قَرُب منها من
حَرِّها.
وقوله:
«فَابْرِدُوُها»، رُوى بوجهين: بقطع الهمزة وفتحها،
رُباعي: من «أبْرَدَ الشيء»: إذا صَيَّرَه باردا، مثل «أَسْخَنَه»: إذا صيَّره
سخنا.
والثاني: بهمزة الوصل مضمومةً من «بَرَدَ الشيء
يَبْرُدُه»، وهو أفصحُ لغةً واستعمالا، والرباعى لغةٌ رديئة عندهم، قال:
إذا وَجدْتُ لَهِيبَ الْحُبِّ في كَبِدِى أقْبَلْتُ
نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِى بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ فَمَنْ
لِنَارٍ عَلَى الأحْشَاءِ تَتَّقِدُ؟
وقوله: «بالماء» فيه قولان، أحدهما: أنه كل ماء، وهو
الصحيح.
والثاني:
أنه ماء زمزمَ، واحتج أصحابُ هذا القول بما رواه البخاري
في صحيحه، عن أبى جَمْرَةَ نَصْرِ بن عمرانَ الضُّبَعىِّ قال: كُنْتُ أُجَالِسُ
ابن عباسٍ بمكةَ، فأخَذَتْنى الْحُمَّى فقال: أبردها عنك بماءِ زمزمَ، فإنَّ
رَسولَ الله ﷺ قال: «إن الحُمَّى من فَيْحِ جَهَنَّم، فأبْردوها بالماء» أو قال: «بماءِ
زَمْزَمَ». وراوى هذا قد شك فيه، ولو جَزَم به لكان أمرا لأهل مكةَ بماء زمزمَ، إذ
هو متيسر عندهم، ولغيرهم بما عندهم من الماء.
ثم اختلفَ مَن قال: إنه على عمومه، هل المراد به الصدقة
بالماء، أو استعماله؟ على قولين. والصحيح أنه استعمال، وأظن أنَّ الذي حمل مَن
قال: المرادُ الصدقةُ به أنه أشكلَ عليه استعمالُ الماء البارد في الحُمَّى ولم
يَفهمْ وجهه مع أنَّ لقوله وجها حسنا، وهو أنَّ الجزاءَ مِن جنس العمل، فكما
أُخْمِد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد، أخمَدَ اللهُ لهيبَ الحُمَّى عنه
جزاءً وِفاقا، ولكن هذا يُؤخد مِن فِقْه الحديث وإشارته، وأما المراد به فاستعماله.
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنَسٍ يَرفعه: «إذَا
حُمَّ أَحَدُكُم، فَلْيُرَشَّ عليهِ الماءَ البارِدَ ثلاثَ ليالٍ مِنَ السَّحَرِ».
وفي سنن ابن ماجه عن أبى هُريرةَ يرفعه: «الْحُمَّى
كِيرٌ مِن كِيرِ جَهَنَّمَ، فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بالماءِ البَاردِ».
وفي المسند وغيره، من حديث الحسن، عن سَمُرَةَ يرفعُه:
«الْحُمَّى قطعةٌ من النَّارِ، فَأبْرِدُوهَا عَنْكُم بالماءِ البارِد»، وكان
رسولُ الله ﷺ إذا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَة من ماءٍ، فَأَفْرَغَهَا عَلَى رَأْسِه
فَاغْتَسَلَ.
وفي السنن: من حديث أبى هريرةَ قال: ذُكِرَت الْحُمَّى
عِنْدَ رسول الله ﷺ، فَسَبَّهَا رجلٌ، فقال رسولُ الله ﷺ: «لاَ تَسُبَّهَا فإنها
تَنْفِى الذُّنُوبَ، كما تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».
لما كانت الحُمَّى يتبعها حِمية عن الأغذية الرديئة،
وتناول الأغذيةِ والأدويةِ النافعة، وفى ذلك إعانةٌ على تنقية البدن، ونَفْى
أخباثِه وفضوله، وتصفيته من مواده الردية، وتفعل فيه كما تفعل النارُ في الحديد في
نَفْىِ خَبثه، وتصفيةِ جوهره، كانت أشبهَ الأشياء بنار الكير التى تُصَفِّى جوهر
الحديد، وهذا القدرُ هو المعلوم عند أطباء الأبدان.
وأما تصفيتها القلبَ من وسخه ودَرَنه، وإخراجها خبائثَه،
فأمرٌ يعلمه أطباءُ القلوب، ويجدونه كما أخبرهم به نبيُّهم رسول الله ﷺ، ولكن مرض
القلب إذا صار مأيُوسا من برئه، لم ينفع فيه هذا العلاج.
فالحُمَّى تنفع البدنَ والقلبَ، وما كان بهذه المَثابة
فسَبُّه ظلم وعدوان.
وذكرتُ مرة وأنا محمومٌ قولَ بعض الشعراء يسبُّها:
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ تبّا لها
مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ
قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِها مَاذَا تريدُ؟
فقُلتُ: أن لا تَرْجِعِى
فقلتُ: تبّا له إذ سَبَّ ما نهى رسولُ الله ﷺ عن سَبِّه.
ولو قال:
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ لِصَبِّها: أَهْلا بها
مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ
قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِها ماذا تريدُ؟
فقلتُ: أن لا تُقْلِعى
لكان أولى به، ولأقلعت عنه. فأقلعت عَنِّى سريعا.
وقد روى في أثر لا أعرف حاله:«حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ
سَنَةٍ»، وفيه قولان؛ أحدهما: أنَّ الحُمَّى تدخل في كل الأعضاء والمفاصِل،
وعدتُها ثلاثمائة وستون مَفْصِلا، فتكفِّرُ عنه بعدد كل مفصل ذنوبَ يوم.
والثاني: أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى
سنة، كما قيل في قوله ﷺ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لمْ تُقْبَلْ لهُ صَلاةٌ أَربعينَ
يوْما»: إنَّ أثر الخمر يَبقى في جوف العبد، وعروقه، وأعضائه أربعين يوما.. والله
أعلم.
قال أبو هريرةَ مَا منْ مَرَضٍ يُصيبنى أَحَبُّ إلىَّ من
الحُمَّى، لأنها تدخل في كلِّ عضوٍ منِّى، وإنَّ الله سبحَانهُ يُعْطى كلَّ عضوٍ
حظَّه مِن الأجرِ.
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث رافِع بن خَدِيجٍ
يرفعُه: «إذا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ الحُمَّى وَإنَّ الحُمَّى قِطْعةٌ مِنَ النَّارِ
فَلْيُطفئهَا بالمَاءِ البَارِدِ، ويَسْتَقبِلْ نَهْرا جاريا، فَلْيستقبلْ جَرْيَةَ
المَاءِ بعدَ الفَجْرِ وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وليقلْ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ اشْفِ
عَبْدَكَ، وصَدِّقْ رَسُولَك. وينغمِسُ فيهِ ثلاثَ غَمَسَاتٍ ثلاثةَ أيامٍ، فإنْ
بَرِىءَ، وإلا ففي خمسٍ، فإن لمْ يبرَأْ في خمس، فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع،
فإنها لا تكادُ تُجاوز تسعا بإذنِ اللهِ».
قلت: وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط
التى تقدَّمت، فإنَّ الماء في ذلك الوقت أبردُ ما يكون لبُعْدِه عن ملاقاة الشمس،
ووفور القُوَى في ذلك الوقت لما أفادها النوم، والسكون، وبرد الهواء، فتجتمع فيه
قوةُ القُوَى، وقوةُ الدواء، وهو الماء البارد على حرارة الحُمَّى العَرَضية، أو
الغِبِّ الخالصة، أعنى التى لا ورم معها، ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد
الفاسدة، فيُطفئها بإذن الله، لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث، وهى
الأيام التى يقع فيها بُحرَان الأمراضُ الحادةُ كثيرا، سيما في البلاد المذكورة،
لرِّقةِ أخلاط سكانها، وسُرعة انفعالهم عن الدواء النافع.
فصل في هديه في علاج استطلاق البطن
في الصحيحين: من حديث أبى المتوكِّل، عن أبى سعيد
الخُدْرِىِّ، «أنَّ رجلا أتى النبي ﷺ، فقال: إنَّ أخى يشتكى بطنَه وفى رواية:
استطلقَ بطنُهُ فقال: «اسْقِهِ عسلا»، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيتُه، فلم يُغنِ عنه
شيئا وفى لفْظ: فلَم يزِدْه إلا اسْتِطْلاقا، مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقولُ له: «اسْقِه عَسَلا».
فقال لهُ في الثالثةِ أو الرابعةِ: «صَدَقَ اللهُ، وكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ».
وفي صحيح مسلم في لفظ له: «إنَّ أخى عَرِبَ بطنُه»، أي
فسد هضمُه، واعتلَّتْ مَعِدَتُه، والاسم: «العَرَب» بفتح الراء، و «الذَّرَب» أيضا.
والعسل فيه منافعُ عظيمة، فإنه جلاءٌ للأوساخ التى في
العروق والأمعاء وغيرها، محلِّلٌ للرطوبات أكلا وطِلاءً، نافعٌ للمشايخ وأصحابِ
البلغم، ومَن كان مِزاجه باردا رطبا، وهو مغّذٍّ ملين للطبيعة، حافِظ لِقُوَى
المعاجين ولما استُودِع فيه، مُذْهِبٌ لكيفيات الأدوية الكريهة، منقٍّ للكبد
والصدر، مُدِرٍّ للبول، موافقٌ للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شُرِبَ حارا بدُهن
الورد، نفع من نهش الهوام، وشرب الأفيون، وإن شُرِبَ وحده ممزوجا بماء نفع من عضة
الكَلْبِ الكَلِبِ، وأكلِ الفُطُرِ القتَّال، وإذا جُعِلَ فيه اللَّحمُ الطري،
حَفِظَ طراوته ثلاثَةَ أشهر، وكذلك إن جُعِل فيه القِثَّاء، والخيارُ، والقرعُ،
والباذنجان، ويحفظ كثيرا من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويُسمى الحافظَ
الأمين. وإذ لطخ به البدن المقمل والشَّعر، قتل قَملَه وصِئْبانَه، وطوَّل
الشَّعرَ، وحسَّنه، ونعَّمه، وإن اكتُحل به، جلا ظُلمة البصر، وإن استُنَّ به
بيَّضَ الأسنان وصقَلها، وحَفِظَ صحتَها، وصحة اللِّثةِ، ويفتح أفواهَ العُروقِ، ويُدِرُّ
الطَّمْثَ، ولعقُه على الريق يُذهب البلغم، ويَغسِلَ خَمْلَ المعدة، ويدفعُ
الفضلات عنها، ويسخنها تسخينا معتدلا، ويفتح سُدَدَها، ويفعل ذلك بالكبد والكُلَى
والمثانة، وهو أقلُّ ضررا لسُدَد الكبد والطحال من كل حلو.
وهو مع هذا كله مأمونُ الغائلة، قليلُ المضار، مُضِرٌ
بالعرض للصفراويين، ودفعها بالخلِّ ونحوه، فيعودُ حينئذ نافعا له جدا.
وهو غِذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع
الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطِلاء مع الأطلية، ومُفرِّح مع المفرِّحات، فما خُلِقَ
لنا شيء في معناه أفضلَ منه، ولا مثلَه، ولا قريبا منه، ولم يكن معوّلُ القدماء
إلا عليه، وأكثرُ كتب القدماء لا ذِكر فيها للسكر ألبتة، ولا يعرفونه، فإنه حديثُ العهد
حدث قريبا، وكان النبي ﷺ يشربه بالماء على الرِّيق، وفى ذلك سِرٌ بديع في حفظ
الصحة لا يُدركه إلا الفطن الفاضل، وسنذكر ذلك إن شاء الله عِند ذكر هديه في حفظ
الصحة.
وفي سنن ابن ماجه مرفوعا من حديث أبى هريرة: «مَنْ
لَعِقَ العَسَل ثَلاثَ غدَوَاتٍ كُلَّ شَهْرٍ، لَمْ يُصِبْه عَظِيمٌ مِنَ
البَلاءِ»، وفى أثر آخر: «علَيْكُم بالشِّفَاءَيْنِ: العَسَلِ والقُرآنِ»، فجمع
بين الطب البَشَرى والإلهى، وبين طب الأبدان، وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضى
والدواء السمائى.
إذا عُرِفَ هذا، فهذا الذي وصف له النبي ﷺ العَسَل، كان
استطلاقُ بطنه عن تُخَمَةٍ أصابته عن امتلاء، فأمره بشُرب العسل لدفع الفُضول
المجتمعة في نواحى المَعِدَةَ والأمعاء، فإن العسلَ فيه جِلاء، ودفع للفضول، وكان
قد أصاب المَعِدَةَ أخلاط لَزِجَةٌ، تمنع استقرارَ الغذاء فيها للزوجتها، فإن
المَعِدَةَ لها خَمْلٌ كخمل القطيفة، فإذا علقت بها الأخلاطُ اللَّزجة، أفسدتها
وأفسدت الغِذاء، فدواؤها بما يجلُوها من تلك الأخلاط، والعسلُ جِلاء، والعسلُ مِن أحسن
ما عُولج به هذا الداءُ، لا سيما إن مُزج بالماء الحار.
وفي تكرار سقيه العسلَ معنى طبي بديع، وهو أن الدواءَ
يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يُزله بالكلية، وإن
جاوزه، أوهى القُوى، فأحدث ضررا آخر، فلما أمره أن يسقيَه العسل، سقاه مقدارا لا
يفى بمقاومة الداءِ، ولا يبلُغ الغرضَ، فلما أخبره، علم أنَّ الذي سقاه لا يبلُغ
مقدار الحاجة، فلما تكرر تردادُه إلى النبي ﷺ، أكَّد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار
المقاوم للداء، فلما تكررت الشرباتُ بحسب مادة الداء، بَرَأ، بإذن الله، واعتبار
مقاديرِ الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب.
وفي قوله ﷺ: «صدَقَ الله وكذَبَ بطنُ أخيكَ»، إشارة إلى
تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لِقصور الدواء في نفسه، ولكنْ لكَذِب البطن،
وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمَره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طِبُّه ﷺ كطِبِّ الأطباء، فإن طبَّ النبي ﷺ
متيقَّنٌ قطعىٌ إلهىٌ، صادرٌ عن الوحى، ومِشْكاةِ النبوة، وكمالِ العقل. وطبُّ
غيرِه أكثرُه حَدْسٌ وظنون، وتجارِب، ولا يُنْكَرُ عدمُ انتفاع كثير من المرضى بطبِّ
النبوة، فإنه إنما ينتفعُ به مَن تلقَّاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال
التلقى له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآنُ الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم
يُتلقَّ هذا التلقى لم يحصل به شفاءُ الصُّدور مِن أدوائها، بل لا يزيدُ المنافقين
إلا رجسا إلى رجسهم، ومرضا إلى مرضهم، وأين يقعُ طبُّ الأبدان منه، فطِب النبوةِ
لا يُناسب إلا الأبدانَ الطيبة، كما أنَّ شِفاء القرآن لا يُناسب إلا الأرواح
الطيبة والقلوب الحية، فإعراضُ الناس عن طِبِّ النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء
بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخُبثِ الطبيعة،
وفساد المحل، وعدمِ قبوله.. والله الموفق.
فصل وقد اختلف الناس في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} [14]، هل الضمير في «فيه» راجعٌ إلى الشراب،
أو راجعٌ إلى القرآن؟ على قولين؛ الصحيح: رجوعُه إلى الشراب، وهو قول ابن مسعود،
وابن عباس، والحسن، وقتادة، والأكثرين، فإنه هو المذكور، والكلامُ سيق لأجله، ولا
ذكرَ للقرآن في الآية، وهذا الحديث الصحيحُ وهو قوله: «صَدَقَ اللهُ» كالصريح
فيه.. والله تعالى أعلم.
فصل في هديه في الطاعون وعلاجه والاحتراز منه
في الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبى وَقَّاصٍ، عن أبيه،
أنه سمعه يَسأَلُ أُسَامَةَ بن زيدٍ: ماذا سمِعْتَ من رسول الله ﷺ في الطاعون؟
فقال أُسامةُ: قال رسول الله ﷺ: «الطاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طائفةٍ من
بنى إسرائيلَ، وعَلَى مَن كان قَبْلَكم، فإذا سَمِعْتُم به بأرضٍ، فَلا تَدْخُلوا
عليه، وإذا وَقَعَ بأرضٍ وأنْتُم بها، فلا تَخُرُجوا منها فِرَارا مِنْهُ».
وفي الصحيحين أيضا: عن حَفْصَةَ بنت سِيرِينَ، قالت: قال
أنسُ ابن مالكٍ: قال رسول الله ﷺ: «الطَّاعُونُ شهادةٌ لكلِّ مُسْلِم».
الطاعون من حيث اللُّغة: نوعٌ من الوباء، قاله صاحب
الصحاح، وهو عند أهل الطب: ورمٌ ردئ قتَّال يخرج معه تلهُّب شديد مؤلم جدا يتجاوز المقدار
في ذلك، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أمره إلى التقرح سريعا.
وفى الأكثر، يحدث في ثلاثة مواضع: في الإِبْط، وخلف الأُذن، والأرنبة، وفى اللحوم
الرخوة.
وفي أثر عن عائشة: أنها قالت للنبي ﷺ: الطعن قد عرفناه،
فما الطاعون؟ قال: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعيرِ يَخْرُجُ في المَرَاقِّ والإِبْط».
قال الأطباء: إذا وقع الخُرَّاجُ في اللحوم الرخوة،
والمغابن، وخلف الأُذن والأرنبة، وكان من جنس فاسد، سُمِّى طاعونا، وسببُه دم ردئ
مائل إلى العُفونة والفساد، مستحيل إلى جوهر سُمِّىٍّ، يفسِدُ العضوَ ويُغيِّر ما
يليه، وربما رَشَح دَما وصديدا، ويؤدِّى إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القيء
والخفقان والغَشى، وهذا الاسم وإن كان يَعُمُّ كُلَّ ورم يؤدى إلى القلب كيفية
رديئة حتى يصيرَ لذلك قتَّالا، فإنه يختصُّ به الحادث في اللَّحم الغُددى، لأنه
لرداءته لا يقبلُه من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤُه ما حدث في الإبط
وخلفَ الأُذن لقربهما من الأعضاء التى هي أرأس، وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر. والذي
إلى السواد، فلا يفلت منه أحدٌ.
ولما كان الطاعون يكثر في الوباء، وفى البلاد الوبيئة،
عُبِّر عنه بالوباء، كما قال الخليل: الوباء: الطاعون. وقيل: هو كل مرض يعم.
والتحقيقُ أنَّ بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا، فكلُّ
طاعونٍ وباءٌ، وليس كلُّ وباءٍ طاعونا، وكذلك الأمراضُ العامة أعمُّ من الطاعون،
فإنه واحد منها، والطواعينُ خرَّاجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم
ذكرها.
قلت: هذه القروح، والأورام، والجراحات، هي آثار الطاعون، وليست
نفسَه، ولكن الأطباء لما لم تُدرك منه إلا الأثر الظاهر، جعلوه نفسَ الطاعون.
والطاعون يُعَبَّر به عن ثلاثة أُمور:
أحدها: هذا الأثر الظاهر، وهو الذي ذكره الأطباء.
والثاني: الموت الحادث عنه، وهو المراد بالحديث الصحيح
في قوله: «الطاعونُ شَهادةٌ لكلِّ مُسلمٌ».
والثالث:
السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورد في الحديث الصحيح:
«أَنهُ بقيةُ رِجز أُرسِلَ عَلى بَنِى إسرائيلَ»، وورد فيه: «أنهُ وَخْزُ الجنِّ»،
وجاء: «أنهُ دَعوةُ نبىّ».
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس
عندهم ما يدل عليها، والرُّسُلُ تُخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التى أدركوها
من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفى أن تكون بتوسط الأرواح، فإن تأثيرَ الأرواح في
الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا مَنْ هو أجهلُ الناس بالأرواح
وتأثيراتِها، وانفعالِ الأجسام وطبائعها عنها، واللهُ سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح
تصرفا في أجسام بنى آدمَ عند حدوث الوباء، وفسادِ الهواء، كما يجعل لها تصرفا عند
بعضِ المواد الرديئة التى تُحدث للنفوس هيئة رديئة، ولا سيما عند هيجان الدم،
والمِرَّةِ السوداء، وعند هَيجان المنَىّ، فإنَّ الأرواح الشيطانية تتمكن مِن
فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكَّن من غيره، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب
من الذِّكر، والدعاء، والابتهال والتضرع، والصَّدَقة، وقراءة القرآن، فإنه يستنزل
بذلك من الأرواح المَلَكية ما يقهُر هذه الأرواح الخبيثَة، ويُبطل شرَّها ويدفع
تأثيرَها. وقد جرَّبنا نحنُ وغيرُنا هذا مرارا لا يُحصيها إلا الله، ورأينا
لاستنزالِ هذه الأرواح الطيبة واستجلابِ قُربها تأثيرا عظيما في تقوية الطبيعة،
ودفع المواد الرديئة، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها، ولا يكاد ينخرم، فمَن
وفَّقه الله، بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التى تدفعها عنه، وهى
له من أنفع الدواء، وإذا أراد الله عَزَّ وجَلَّ إنفاذَ قضائه وقَدَره، أغفل قلبَ
العبد عن معرفتها وتصوُّرِها وإرادتها، فلا يشعر بها، ولا يُريدها، ليقضى الله فيه
أمرا كان مفعولا.
وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحا وبيانا عند
الكلام على التداوي بالرُّقَى، والعُوَذ النبوية، والأذكار، والدعوات، وفعل
الخيرات، ونُبيّن أن نِسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي، كنسبة طب الطرْقية
والعجائز إلى طبهم، كما اعترف به حُذَّاقهم وأئمتهم، ونبين أن الطبيعة الإنسانية
أشد شيء انفعالا عن الأرواح، وأن قُوَى العُوَذ، والرُّقَى، والدعوات، فوق قُوَى
الأدوية، حتى إنها تُبطل قُوَى السموم القاتلة.
والمقصود: أنَّ فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام، والعِلَّة
الفاعلة للطاعون، فإن فساد جوهر الهواء الموجِبُ لحدوث الوباء وفساده، يكون
لاستحالة جوهره إلى الرداءة، لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه، كالعفونة،
والنَّتَن، والسُّمِّيّة في أي وقت كان من أوقات السنة، وإن كان أكثر حدوثه في
أواخر الصيف، وفى الخريف غالبا لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها في
فصل الصيف، وعدم تحللها في آخره، وفى الخريف لبرد الجو، ورَدْغَة الأبخرة والفضلات
التى كانت تتحلل في زمن الصيف، فتنحصر، فتسخن، وتعفن، فتحدث الأمراض العفنة، ولا
سيما إذا صادفت البدن مستعدا، قابلا، رهِلا، قليل الحركة، كثيرَ المواد، فهذا لا
يكاد يُفْلِت مِن العطب.
وأصحُّ الفصول فيه فصل الربيع؛ قال بقراط: إن في الخريف
أشد ما تكون من الأمراض، وأقتل، وأما الربيعُ، فأصحُّ الأوقات كلها وأقلُّها موتا،
وقد جرت عادةُ الصيادلة، ومجهزى الموتى أنهم يستدينونَ، ويتسلِّفون في الربيع
والصيف على فصل الخريف، فهو ربيعُهم، وهم أشوقُ شيء إليه، وأفرحُ بقدومه.
وقد روى في حديث: «إذا طَلعَ النَّجْمُ ارْتَفَعَت
الْعَاهَةُ عن كلِّ بَلَدٍ». وفُسِّر بطلوع الثُّريا، وفُسِّر بطلوع النبات زمن الربيع،
ومنه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان} [15]، فإنَّ كمال طلوعه وتمامَه يكون في فصل
الربيع، وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات.
وأما الثُّريا، فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر
وسقوطها.
قال التَّمِيمىُّ في كتاب «مادة البقاء»: أشدُّ أوقات
السنة فسادا، وأعظُمها بلية على الأجساد وقتان، أحدهما: وقتُ سقوط الثُّريا للمغيب
عند طلوع الفجر. والثاني: وقت طلوعها من المشرِق قبل طلوع الشمس على العالَم،
بمنزلة من منازل القمر، وهو وقت تصرُّمِ فصل الربيع وانقضائه، غير أن الفسادَ الكائن
عند طلوعها أقلُّ ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها.
وقال أبو محمد بن قتيبة: يقال: ما طلعت الثُّريا ولا
نأتْ إلا بعَاهة في النَّاس والإِبْل، وغروبُها أعْوَهُ من طلوعها.
وفي الحديث قولٌ ثالث ولعله أولى الأقوال به أنَّ المراد
بالنَّجْم: الثُّريا، وبالعاهة: الآفة التى تلحق الزروع والثمار في فصل الشتاء
وصدر فصل الربيع، فحصل الأمن عليها عند طلوع الثُّريا في الوقت المذكور، ولذلك نهى
ﷺ عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدُوَ صلاحُها. والمقصود: الكلام على هديه ﷺ عند وقوع
الطاعون.
فصل نهى النبي ﷺ عن الدخول إلى الأرض التى هو بها أو
الخروج منها
وقد جمع النبي ﷺ للأُمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض
التى هو بها، ونهيهِ عن الخروج منها بعد وقوعه كمالَ التحرز منه، فإنَّ في الدخول
في الأرض التى هو بها تعرضا للبلاء، وموافاةً له في محل سلطانه، وإعانةً للإنسان
على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنُّبُ الدخول إلى أرضه من باب الحِمية
التى أرشد الله سبحانه إليها، وهى حِمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية.
وأما نهيه عن الخروج من بلده، ففيه معنيان:
أحدُّهما: حمل النفوس على الثقة بالله، والتوكل عليه،
والصبرِ على أقضيته، والرِّضَى بها.
والثاني:
ما قاله أئمة الطب: أنه يجب على كل محترز من الوباء أن
يُخْرِجَ عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويُقلِّل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف
مِن كل وجه إلا الرياضةَ والحمَّام، فإنهما مما يجب أن يُحذرا، لأن البدن لا يخلو غالبا
مِن فضل رديء كامن فيه، فتثيرُه الرياضة والحمَّام، ويخلطانه بالكيموس الجيد. وذلك
يجلب عِلَّة عظيمة، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدَّعة، وتسكين هيجان
الأخلاط، ولا يمكن الخروجُ من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة، وهى مضرة
جدا، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي، وما
فيه من علاج القلب والبدن وصلاحِهما.
فإن قيل: ففي قول النبي ﷺ: «لا تخرجوا فِرارا مِنهُ»، ما
يُبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه، وأنه لا يمنع الخروجَ لعارض، ولا
يحبس مسافرا عن سفره؟
قيل: لم يقل أحدٌ طبيبٌ ولا غيره إنَّ الناس يتركون
حركاتِهم عند الطواعين، ويصيرون بمنزلة الجماداتِ، وإنما ينبغي فيه التقلُّل من
الحركة بحسب الإمكان، والفارُّ منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفِرار منه، ودعتُه
وسكونُه أنفع لقلبه وبدنه، وأقربُ إلى توكله على الله تعالى، واستسلامه لقضائه.
وأما مَن لا يستغنى عن الحركة كالصُنَّاع، والأُجراء، والمسافرين، والبُرُد،
وغيرهم فلا يقال لهم: اتركوا حركاتِكم جملةً، وإن أُمروا أن يتركوا منها ما لا
حاجة لهم إليه، كحركة المسافر فارّا منه.. والله تعالى أعلم.
وفي المنع من الدخول إلى الأرض التى قد وقع بها عدةُ
حِكَم:
أحدها: تجنب الأسباب المؤذية، والبُعْد منها.
الثاني: الأخذُ بالعافية التى هي مادةُ المعاشِ والمعاد.
الثالث: أن لا يستنشِقُوا الهواءَ الذي قد عَفِنَ
وفَسَدَ فيمرضون.
الرابع: أن لا يُجاوروا المرضى الذين قد مَرِضُوا بذلك،
فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم.
وفي سنن أبي داود مرفوعا: «إنَّ مِن القرفِ التلفَ».
قال ابن قتيبة: القرفُ مداناة الوباء، ومداناة المرضى.
الخامس: حِميةُ النفوس عن الطِّيَرَة والعَدوى، فإنها
تتأثر بهما، فإن الطِّيرة على مَن تطيَّرَ بها.
وبالجملة ففي النهى عن الدخول في أرضه الأمرُ بالحذر
والحِمية، والنهىُ عن التعرض لأسباب التلف. وفى النهى عن الفِرار منه الأمر
بالتوكل، والتسليم، والتفويض، فالأولُ: تأديب وتعليم، والثاني: تفويض وتسليم.
وفي الصحيح:
أنَّ عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغَ
لَقيه أبو عُبيدة بن الجرَّاح وأصحابه، فأخبرُوه أنَّ الوَباءَ قد وقع بالشام،
فاختلفوا، فقال لابن عباس: ادعُ لى المهاجرينَ الأوَّلينَ، قال: فدعوتُهم،
فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباء قد وقع بالشام. فاختلفوا، فقال له بعضُهم: خرجتَ لأَمر،
فلا نرى أن تَرْجِعَ عنه. وقال آخرون: معك بقيةُ الناس، وأصحابُ رسول الله ﷺ، فلا
نرى أن تُقْدِمَهُم على هذا الوَبَاء، فقال عمر: ارتفعوا عَنِّى، ثم قال: ادعُ لى
الأنصار، فدعوتُهم له، فاستشارهم، فسلكُوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم،
فقال: ارتفعوا عَنِّى، ثم قال: ادْع لى مَنْ هَهُنَا من مشيخةِ قريشٍ من مُهاجرةِ
الفتح، فدعوتهم له، فلم يختلف عليه منهم رجلان، قالوا: نرى أن ترجِعَ بالناس ولا
تُقْدِمَهُم على هذا الوباء، فَأَذَّنَ عمر في الناس: إنى مُصبحٌ على ظَهْرٍ،
فأَصْبِحُوا عليهِ. فقال أبو عُبيدة بن الجرَّاح: يا أميرَ المؤمنين؛ أفِرَارا من قَدَرِ
الله تعالى؟ قال: لو غيرُك قالها يا أبا عُبيدة، نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله تعالى
إلى قَدَرِ الله تعالى، أرأيتَ لو كانَ لك إبلٌ فهبطتَ وَادِيا له عُدْوَتَان،
إحداهما خِصبة، والأُخرى جَدْبة، ألستَ إنْ رعيتَها الخِصبة رعيتَها بَقدَرِ الله
تعالى، وإن رعيتها الجدبةَ رعيتَها بقدر الله تعالى؟. قال: فجاء عبد الرحمن بن
عَوْف وكانَ متغيبا في بعض حاجاتِهِ، فقال: إنَّ عندى في هذا علما، سمعتُ رسول
الله ﷺ يقول: «إذا كان بِأَرْضٍ وأنْتُمْ بها فلا تَخْرُجوا فِرَارا منه، وإذا
سَمِعْتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عَلَيْهِ».
فصل في هديه ﷺ في داء الاستسقاء وعلاجه
في الصحيحين: من حديث أنس بن مالك، قال: «قَدِمَ رَهْطٌ
من عُرَيْنَةَ وَعُكَل على النبي ﷺ، فاجْتَوَوا المدينة، فشكوا ذلك إلى النبي ﷺ،
فقال لو خرجُتم إلى إِبِل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فلما
صحُّوا، عمدوا إلى الرُّعَاةِ فقتلُوهم، واستاقُوا الإبل، وحاربُوا الله ورسوله،
فبعث رسولُ الله ﷺ في آثارهم، فأُخِذُوا، فَقَطَعَ أيديَهُم، وأرجُلَهُم، وسَمَلَ
أعْيُنَهُم، وألقاهم في الشمس حتى ماتوا».
والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء، ما رواه مسلم
في صحيحه في هذا الحديث أنهم قالوا:
«إنَّا اجتوينا المدينة، فعظمت بطونُنا، وارتهشت
أعضاؤنا».... وذكر تمام الحديث.
والجَوَى: داء من أدواء الجوف والاستسقاء: مرض مادى سببه
مادة غريبة باردة تتخلَّل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع
الخالية من النواحى التى فيها تدبير الغِذاء والأخلاط، وأقسامُه ثلاثة: لحمىٌّ وهو
أصعبها وزقىٌّ، وطبلىٌّ.
ولما كانت الأدوية المحتاجُ إليها في علاجه هي الأدوية
الجالبة التى فيها إطلاقٌ معتدل، وإدرارٌ بحسب الحاجة وهذه الأُمور موجودةٌ في
أبوال الإبل وألبانها، أمرهم النبي ﷺ بشربها، فإنَّ في لبن اللِّقَاح جلاءً
وتليينا، وإدرارا وتلطيفا، وتفتيحا للسدَد، إذ كان أكثرُ رعيِها الشيح، والقيصوم،
والبابونج، والأقحوان، والإِذْخِر، وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء.
وهذا المرضُ لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة، أو مع
مشاركة، وأكثرها عن السدَد فيها، ولبن اللِّقاحِ العربية نافعٌ من السدَد، لما فيه
من التفتيح، والمنافع المذكورة.
قال الرازي: لبن اللِّقاح يشفى أوجاعَ الكبد، وفساد
المِزاج. وقال الإسرائيلى: لبن اللِّقاح أرقُّ الألبان، وأكثرُها مائيَّة وحِدَّة، وأقلُّها
غِذاء. فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول، وإطلاقِ البطن، وتفتيح السدَد، ويدل
على ذلك ملوحتُه اليسيرة التى فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع، ولذلك صار أخصَّ
الألبان بتطرِية الكبد، وتفتيح سُددها، وتحليلِ صلابة الطحال إذا كان حديثا،
والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استُعمل لحرارته التى يخرج بها من الضَّرْع مع بول
الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد في ملوحته، وتقطيعه الفضولَ،
وإطلاقهِ البطن فإن تعذَّر انحدارُه وإطلاقُه البطن، وجب أن يُطلق بدواء مسهل.
قال صاحب القانون: ولا يُلتفت إلى ما يقال: من أن طبيعة
اللَّبن مضادة لِعلاج الاستسقاء. قال:
واعلم أنَّ لبن النُّوق دواءٌ نافع لما فيه من الجِلاء
برفق، وما فيه من خاصية، وأنَّ هذا اللَّبن شديد المنفعة، فلو أنَّ إنسانا أقام
عليه بدل الماء والطعام شُفِىَ به، وقد جُرِّبَ ذلك في قوم دُفِعوا إلى بلاد
العرب، فقادتهم الضرورةُ إلى ذلك، فعُوفوا. وأنفعُ الأبوال: بَوْل الجمل الأعرابي،
وهو النجيب.. انتهى.
وفي القصة: دليلٌ على التداوي والتطبُّب، وعلى طهارة بول
مأكول اللَّحم، فإن التداوي بالمحرَّمات غير جائز، ولم يُؤمروا مع قرب عهدهم
بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابُهم من أبوالها للصلاة، وتأخيرُ البيان لا
يجوزُ عن وقت الحاجة.
وعلى مقاتلة الجانى بمثل ما فعل، فإن هؤلاء قتلوا
الراعىَ، وسملُوا عينيه، ثبت ذلك في صحيح مسلم.
وعلى قتل الجماعة، وأخذِ أطرافهم بالواحد.
وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجانى حدٌ وقِصاصٌ استوفيا
معا، فإن النبي ﷺ قطع أيديَهم وأرجُلَهم حدا لله على حِرابهم، وقَتَلَهُم لقتلهم
الراعى.
وعلى أن المحارب إذا أخذ المال، وَقَتَل، قُطِعت يده
ورجله في مقام واحد وقُتِل.
وعلى أنَّ الجنايات إذا تعددت، تغلَّظت عقوباتُها، فإنَّ
هؤلاء ارتدُّوا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس، ومثَّلُوا بالمقتول، وأخذوا المال،
وجاهروا بالمحاربة.
وعلى أنَّ حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم، فإنه من
المعلوم أنَّ كُلَّ واحد منهم لم يُباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي ﷺ عن ذلك.
وعلى أن قتل الغِيلةِ يُوجب قتل القاتل حدا، فلا يُسقطه
العفو، ولا تُعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهبُ أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب
أحمد، اختاره شيخنا، وأفتى به.
فصل في هديه ﷺ في علاج الجرح
في الصحيحين عن أبى حازم، أنه سمع سَهْلَ بن سعدٍ يسألُ
عما دُووىَ به جُرْحُ رسولِ الله ﷺ يوم أُحُدٍ. فقال: «جُرِحَ وجهُه، وكُسِرَت
رَبَاعيتهُ، وهُشِمَت البَيْضةُ على رأسه، وكانت فاطمةُ بنتُ رسول الله ﷺ تغسِلُ
الدمَ، وكان علىُّ بن أبى طالب يسكُب عليها بالْمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة الدمَ لا
يزيد إلا كَثرةً، أخذت قطعةَ حصيرٍ، فأحرقتْها حتى إذا صارت رَمادا ألصقتهُ
بالجُرحِ فاستمسك الدمُ، برمَادِ الحصيرِ المعمول من البَرْدِىّ»، وله فِعلٌ قوىٌ
في حبس الدم، لأن فيه تجفيفا قويا، وقِلَّةَ لذَع، فإنَّ الأدوية القوية التجفيف إذا
كان فيها لذعٌ هيَّجت الدمَ وجلبتْه، وهذا الرَّمادُ إذا نُفِخَ وحده، أو مع الخل
في أنف الراعِفِ قطعَ رُعافُه.
وقال صاحب القانون: البَرْدِىُّ ينفع من النزف، ويمنعه.
ويُذَرُّ على الجراحات الطرية، فَيَدْمُلُها، والقرطاسُ المصرى كان قديما يُعمل
منه، ومزاجُه بارديابس، ورماده نافع من أَكلَةِ الفم، ويحبسُ نَفَثَ الدمِ، ويمنع
القروح الخبيثة أن تسعى.
فصل في هديه ﷺ في العلاج بشرب العسل والحجامة والكي
في صحيح البخاري: عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباس، عن
النبي ﷺ، قال: «الشِّفَاءُ في ثلاثٍ: شُرْبَةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ،
وكَيَّةِ نارٍ، وأنا أنْهى أُمَّتى عن الْكَىِّ».
قال أبو عبد الله المازَرِى: الأمراض الامتلائية: إما أن
تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية. فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراجُ
الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثةِ الباقية، فشفاؤها بالإِسهال الذي يَليق بكل
خِلط منها، وكأنه ﷺ: نَبَّهَ بالعسل على المسهلات، وبالحِجامة على الفَصْد، وقد
قال بعض الناس: إنَّ الفصدَ يدخل في قوله: «شَرْطهِ مِحْجَمٍ»؛ فإذا أعْيَا
الدواءُ، فآخِرُ الطبِّ الْكَىٌّ.
فذكره ﷺ في الأدوية، لأنه يُستعمل عند غلبة الطباع لقُوى
الأدوية، وحيث لا ينفعُ الدواءُ المشروب. وقوله: «وأنا أنْهى أُمَّتى عن الكَىِّ»،
وفى الحديث الآخر: «وما أُحبُّ أن أَكْتَوِى». إشارةٌ إلى أن يؤخَّرَ العلاجَ به
حتى تَدفَع الضرورةُ إليه، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد
في دفع ألمٍ قد يكون أضعفَ من ألم الكَىّ... انتهى كلامه.
وقال بعض الأطباءِ: الأمراضُ المِزاجية: إما أن تكون
بمادة، أو بغير مادة، والمادية منها، إما حارةٌ، أو باردةٌ، أو رَطبةٌ، أو يابسةٌ،
أو ما تركَّب منها، وهذه الكيفيات الأربع، منها كيفيتان فاعلتان: وهما الحرارةُ والبرودةُ؛
وكيفيتان منفعلتان: وهما الرطوبة واليبوسة، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين
الفاعلتين استصحابُ كيفية منفعِلَة معها، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة
في البدن، وسائر المركَّبات كيفيتان: فاعلةٌ ومنفعلةٌ.
فحصل مِن ذلك أنَّ أصل الأمراض المِزاجية هي التابعة
لأقوى كيفيات الأخلاط التى هي الحرارةُ والبرودةُ، فجاء كلام النبوة في أصل معالجة
الأمراض التى هي الحارة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حارا، عالجناه
بإخراج الدم، بالفَصْد كان أو بالِحجامة، لأن في ذلك استفراغا للمادة، وتبريدا للمِزاج.
وإن كان باردا عالجناه بالتسخين، وذلك موجود في العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى
استفراغ المادة الباردة، فالعسلُ أيضا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج، والتقطيع،
والتلطيف، والجِلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمْنٍ من
نكاية المسهلات القوية.
وأما الكَىُّ: فلأنَّ كلَّ واحد من الأمراض المادية، إما
أن يكون حادا فيكون سريعَ الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يُحتاج إليه فيه، وإما أن
يكون مُزْمِنا، وأفضلُ علاجه بعد الاستفراغ الكىُّ في الأعضاء التى يجوز فيها
الكَىّ. لأنه لا يكون مزمنا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو، وأفسدتْ مِزاجَه،
وأحالتْ جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج
بالكىِّ تلك المادةُ من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود
بالكىِّ لتلك المادة.
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخْذَ معالجة الأمراض
المادية جميعها، كما استنبطنا معالجةَ الأمراضِ الساذَجةِ من قوله ﷺ: «إنَّ شدةَ
الحُمَّى مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ، فأبرِدُوهَا بالماء»
فصل وأما الحِجَامةُ، ففي سنن ابن ماجه من حديث جُبَارَةَ
بن المُغَلِّس وهو ضعيفٌ عن كثير بن سَليم، قال: سَمعتُ أَنَسَ بن مالكٍ يقولُ:
قال رسول الله ﷺ: «ما مَرَرْتُ ليلةَ أُسْرِىَ بى بملإٍ إلا قالُوا: يا محمدُ؛
مُرْ أُمَّتَكَ بِالحِجَامَةِ».
وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا الحديث،
وقال فيه: «عليكَ بالحِجَامَةِ يا مُحَمَّدُ».
وفي الصحيحين من حديث طَاووس، عن ابن عباس، أنَّ النبي ﷺ
«احتجَمَ وأعْطى الحَجَّامَ أجْرَه».
وفي الصحيحين أيضا، عن حُمَيدٍ الطويل، عن أنس، أنَّ
رسول الله ﷺ حجمَهُ أبُو طَيْبَةَ، فأمَرَ لهُ بصَاعينِ مِن طعامٍ، وكلَّمَ
مواليهُ، فخفَّفُوا عنهُ مِن ضريبتِهِ، وقال: «خَيْرُ مَا تَدَاويْتمْ بِهِ
الْحِجَامَةَ».
وفي جامع الترمذي عن عبَّاد بن منصور، قال: سمِعتُ
عِكْرمَةَ يقولُ: «كانَ لابن عباسٍ غِلمةٌ ثلاثةٌ حَجَّامُون، فكانَ اثنَانِ
يُغلانِ عليه، وَعَلَى أهلِهِ، وواحدٌ لحجمِهِ، وحجمِ أهلِهِ. قال: وقال ابنُ
عباسٍ: قال نبىُّ الله ﷺ: «نِعْمَ العبدُ الحَجَّامُ يَذْهَبُ بالدَّمِ، وَيُخِفُّ
الصُّلْبَ، ويَجْلُو البَصَرَ». وقال: إنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ حيثُ عُرِجَ بِهِ، ما
مرَّ عَلَى مَلأٍ مِن الملائكةِ إلاَّ قالُوا: «عليكَ بالحِجَامَةِ». وقالَ: «إنَّ
خيرَ مَا تحْتَجِمُونَ فيهِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ، ويَوْمَ تِسْعَ عَشْرَةَ،
وَيَوْمَ إحْدَى وَعِشرينَ»، وقال:
«إنَّ خَيْرَ ما تَدَاويْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ
واللَّدُودُ والحِجَامَةُ والمَشِىُّ، وإنَّ رسولَ الله ﷺ لُدَّ، فقالَ: «مَن
لَدَّنِي»؟ فَكُلُّهُمْ أمسكُوا. فقال: «لا يبقَى أحَدٌ في البَيْتِ إلا لُدَّ،
إلاَّ العباسَ». قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجَه.
فصل في منافع الحجامة
وأما منافعُ الحِجَامَة: فإنها تُنَقِّى سطح البدن أكثرَ
من الفَصْد، والفصدُ لأعماق البدن أفضلُ، والحِجَامَةُ تستخْرِجُ الدَّمَ من نواحى
الجلد.
قلتُ:
والتحقيقُ في أمرها وأمْرِ الفصد، أنهما يختلفان باختلاف
الزمانِ، والمكانِ، والأسنانِ، والأمزجةِ، فالبلادُ الحارةُ، والأزمنةُ الحارةُ، والأمزجة
الحارة التى دَمُ أصحابها في غاية النُّضج الحجامةُ فيها أنفعُ من الفصد بكثير،
فإنَّ الدَّمَ ينضج ويَرِقُّ ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتُخرِجُ الحِجَامَةِ ما
لا يُخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفعَ للصبيان من الفصد، ولِمَنْ لا يَقْوَى على
الفَصد.
وقد نص الأطباء على أنَّ البلاد الحارةَ الحجامةُ فيها
أنفعُ وأفضلُ من الفصد، وتُستحب في وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، في الربع
الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعدُ قد هاج وتَبَيَّغَ، وفى
آخره يكون قد سكن، وأما في وسطه وبُعَيْدَه، فيكون في نهاية التَّزَيُّدِ.
قال صاحب القانون: ويُؤمر باستعمال الحِجَامة لا في أول
الشهر، لأن الأخلاط لا تكون قد تحرَّكت وهاجت، ولا في آخره لأنها تكون قد نقصَت،
بل في وَسَطِ الشهر حين تكون الأخلاط هائجةً بالغةً في تزايدها لتزيد النور في
جُرم القمر. وقد رُوِى عن النبي ﷺ أنه قال: «خَيْرُ ما تداويتم به الحِجَامَة
والفَصْدُ». وفى حديث: «خَيْرُ الدواءِ الحِجَامَةُ والفَصْد».. انتهى.
وقوله ﷺ: «خَير ما تداويتم به الحِجَامَة» إشارة إلى أهل
الحجاز، والبلاد الحارةِ، لأن دِماءَهم رقيقةٌ، وهى أميَلُ إلى ظاهر أبدانهم لجذب
الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها في نواحى الجلد، ولأن مسامَّ
أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخِلةٌ، ففي الفصد لهم خطرٌ، والحِجامة تفرُّقٌ اتصالى
إرادى يتبعه استفراغٌ كُلِّىٌ من العروق، وخاصةً العروقَ التى لا تُفصد كثيرا، ولِفصد
كُلِّ واحد منها نفعٌ خاص، ففصدُ الباسليق: ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام
الكائنةِ فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشَّوْصَة وذات الجنب
وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الوَرِك.
وفصد الأكحل: ينفع من الامتلاء العارض في جميع البدن إذا
كان دمويّا، وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن.
وفصد القيفال: ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة
من كثرة الدم أو فساده.
وفصد الوَدْجيْنِ: ينفع من وجع الطحال، والربو،
والبُهْر، ووجع الجبين.
والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المَنْكِبِ والحلق.
والحجامة على الأخدعين: تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه،
كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة
الدَّم أو فساده، أو عنهما جميعا.
قال أنس رضى الله تعالى عنه: «كان رسولُ الله ﷺ يحتجمُ
في الأخْدَعَيْن والكَاهِلِ».
وفي الصحيحين عنه: «كان رسولُ الله ﷺ يحتجم ثلاثا:
واحدةً علىكاهله، واثْنتين على الأخْدَعَيْن»
وفي الصحيح عنه: «أنه احتجم وهو محرمٌ في رأسه لِصداع
كان به».
وفي سنن ابن ماجه عن علىّ: «نزل جبريلُ على النبي ﷺ
بحجامة الأخْدَعَيْنِ والكَاهِلِ».
وفي سنن أبي داود من حديث جابر: «أنَّ النبي ﷺ احتجم في
وَركه من وثءٍ كان به».
فصل في مواضع الحجامة وأوقاتها
واختلف الأطباءُ في الحِجَامَةِ على نُقرةِ القفا، وهى:
القَمَحْدُوَةُ.
وذكر أبو نعيم في كتاب «الطب النبوي» حديثا مرفوعا:
«عَلَيْكم بالحِجَامَة في جَوْزَةِ القَمحْدُوَةِ، فإنها تشفى من خمسة أَدواءٍ»،
ذكر منها الجُذَامَ.
وفي حديث آخر: «عليكم بالحِجَامَة في جَوْزَةِ
القَمْحْدُوَةِ، فإنها شفاءٌ من اثْنَيْنِ وسَبْعينَ داءً».
فطائفةٌ منهم استحسنته وقالت: إنها تنفعُ من جَحْظِ
العَيْن، والنُّتُوءِ العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثِقل الحاجبين والجَفن،
وتنفع من جَرَبه.
وروى أنَّ أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم في جانبى
قفاه، ولم يحتجم في النُّقرة.
وممن كرهها صاحب القانون، وقال: إنها تُورث النِّسيان
حقا، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمدٌ ﷺ، فإنَّ مؤخَّر الدماغ موضع
الحفظ، والحِجَامَة تُذهبه.. انتهى كلامه.
وردَّ عليه آخرون، وقالوا: الحديثُ لا يَثبُت، وإن ثبت
فالحِجَامَةِ إنما تُضعف مؤخَّرَ الدماغ إذا استُعمِلَتْ لغير ضرورة، فأما إذا
استُعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طبا وشرعا، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه
احتَجَمَ في عدةِ أماكنَ مِن قفاه بحسب ما اقتضاه الحالُ في ذلك، واحتَجَمَ في غير
القفا بحسب ما دعت إليه حاجتُه.
فصل والحِجَامَةُ تحت الذقن تنفعُ من وجع الأسنان والوجه
والحلقوم، إذا استُعْمِلَت في وقتها؛ وتُنقِّى الرأس والفَكَّيْن
والحِجَامَةُ على ظهر القدم تَنوبُ عن فَصْدِ
الصَّافِنِ؛ وهو عِرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفَخِذين والساقين، وانقطاعِ
الطَّمْثِ، والحِكَّةِ العارِضة في الأُنْثَيَيْنِ.
والحِجَامةُ في أسفل الصدر نافعةٌ من دماميل الفخذِ،
وجَرَبِه، وبُثُورِه، ومن النِّقْرِس، والبواسيرِ والفِيل وحِكَّةِ الظهر.
فصل في هديه ﷺ في أوقات الحجامة
روى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس يرفعه: «إنَّ
خَيْرَ ما تَحتَجِمُون فيه يَوْمُ سابعَ عشَرَةَ، أو تاسِعَ عشرةَ، ويومُ إحْدَى
وعِشْرِينَ».
وفيه عن أنس: «كان رسولُ الله ﷺ يَحْتَجِمُ في
الأخدَعَين والكاهل، وكان يحتجم لِسَبْعَةَ عَشَرَ، وتِسْعَةَ عَشَرَ، وفى إحْدَى
وعِشرِينَ».
وفي سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعا: «مَنْ أراد الحِجَامة
فَلْيَتَحَرَّ سَبْعَةَ عَشَرَ، أو تِسْعَةَ عَشَرَ، أو إحْدَى وعِشرِينَ، لا
يَتَبَيَّغ بأحَدِكُم الدَّمُ، فيقتلَه».
وفي سنن أبي داود مِن حديث أبى هريرة مرفوعا: «مَن احْتَجَمَ
لِسَبْع عَشْرَةَ، أو تِسْعَ عَشْرَة، أو إحْدَى وعِشْرِينَ، كانَتْ شِفاءً من كلِّ
داءٍ»، وهذا معناه من كل داءٍ سببه غلبة الدَّم.
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء، أنَّ
الحِجَامَة في النصف الثاني، وما يليه من الرُّبع الثالث من أرباعه أنفع من أوله
وآخره، وإذا استُعْمِلَتْ عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره.
قال الخَلال: أخبرني عصمةُ بن عصام، قال: حدَّثنا حَنبل،
قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجِمُ أي وقت هاج به الدَّم، وأىَّ ساعة
كانت.
وقال صاحب القانون: أوقاتُها في النهار: الساعة الثانية
أو الثالثة، ويجب توقيها بعد الحمَّام إلا فيمن دَمُه غليظ، فيجب أن يستحِمَّ، ثم
يستجم ساعة، ثم يحتجم.. انتهى.
وتُكره عندهم الحِجَامَة على الشبع، فإنها ربما أورثت
سُدَدا وأمراضا رديئة، ولا سيما إذا كان الغذاء رديئا غليظا. وفى أثر: «الحجامةُ على الرِّيق دواء،
وعلى الشبع داء، وفى سبعة عشر من الشهر شفاء».
واختيار هذه الأوقات للحِجَامة، فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط
والتحرز من الأذى، وحفظا للصحة. وأما في مُداواة الأمراض، فحيثما وُجد الاحتياجُ
إليها وجب استعمالها.
وفي قوله: «لا يَتَبَيَّغْ بأحدِكم الدَّمُ فيقتلَهُ»،
دلالة على ذلك، يعنى لئلا يَتَبَيَّغ، فحذف حرف الجر مع «أَن»، ثم حُذفت «أَن». و
«التَّبَيُّغُ»: الهَيْجُ، وهو مقلوب البغى، وهو بمعناه، فإنه بغى الدم وهيجانه.
وقد تقدَّم أنَّ الإمام أحمد كان يحتجم أي وقتٍ احتاج من الشهر.
فصل وأما اختيارُ أيام الأسبوع للحِجَامة، فقال
الخَلاَّل في جامعه: أخبرنا حرب بن إسماعيل، قال: قلت لأحمد: تُكره الحِجَامة في
شيء من الأيام؟ قال: قد جاء في الأربعاء والسبت.
وفيه: عن الحسين بن حسَّان، أنه سأل أبا عبد الله عن
الحِجَامة: أي وقت تُكره؟ فقال: في يوم السبت، ويوم الأربعاء؛ ويقولون: يوم الجمعة.
وروى الخَلال، عن أبى سلمةَ وأبى سعيد المقبُرى، عن أبى
هريرة مرفوعا: «مَن احْتَجَمَ يومَ الأربِعَاء أو يومَ السَّبْتِ، فأصابَهُ بياضٌ
أو بَرَصٌ، فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ».
وقال الخَلال: أخبرنا محمد بن على بن جعفر، أنَّ يعقوب
بن بختان، حدَّثهم، قال: «سُئِلَ أحمد عن النَّورَةِ والحِجَامةِ يوم السبت ويوم
الأربعاء؟ فكرهها. وقال: بلغنى عن رجل أنه تَنَوَّرَ، واحتجم يعنى يوم الأربعاء
فأصابه البَرَصُ. فقلت له: كأنه تهاوَنَ بالحديث؟ قال: نعم».
وفي كتاب الأفراد للدَّارَقُطْنىِّ، من حديث نافع قال:
قال لى عبد الله ابن عمر: «تَبَيَّغَ بى الدم، فابْغِ لى حجَّاما؛ ولا يكن صبيّا
ولا شيخا كبيرا، فإنى سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «الحِجَامَةِ تزِيدُ الحَافِظَ حِفْظا،
والعاقِلَ عقلا، فاحْتَجِمُوا على اسم الله تعالى، ولا تحْتَجِمُوا الخَمِيسَ،
والجُمُعَةَ، والسَّبْتَ، والأحَدَ، واحْتَجِمُوا الاثْنَيْن، وما كان من جُذامٍ
ولا بَرَصٍ، إلا نزلَ يوم الأربعاء». قال الدَّارَقُطْنى: تَفَرَّدَ به زيادُ بن
يحيى، وقد رواه أَيوب عن نَافع، وقال فيه: «واحْتَجِمُوا يومَ الاثْنَيْن والثُّلاثَاء،
ولا تَحْتَجِمُوا يوم الأربعاء».
وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبى بكرةَ، أنه كان
يكره الحِجَامَة يَوْمَ الثُّلاثَاء، وقال: إنَّ رسول الله ﷺ، قال: «يومُ
الثُّلاثَاء يوم الدَّمِ وفيه ساعةٌ لا يَرْقَأُ فِيهَا الدَّمُ».
فصل وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمَةِ استحبابُ التداوي،
واستحبابُ الحِجَامة، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحالُ؛ وجوازُ احتجامِ
الْمُحْرِم: وإنْ آل إلى قطع شيء من الشَّعر، فإن ذلك جائز. وفى وجوب الفديةِ عليه
نظر، ولا يَقوَى الوجوبُ، وجوازُ احتجامِ الصائم، فإنَّ في صحيح البخاري أَنَّ
رسول الله ﷺ «احْتَجَمَ وهو صائم»، ولكن: هل يُفطِرُ
بذلك، أم لا؟ مسألة أُخرى، الصوابُ: الفِطرُ بالحِجامة، لصحته عن رسول الله ﷺ من
غير معارضٍ، وأصحُّ ما يعارَضُ به حديثُ حِجَامته وهو صائم، ولكنْ لا يَدلُّ على
عدم الفِطر إلا بعد أربعة أُمور. أحدها:
أنَّ الصوم كان فرضا. الثاني: أنه كان مقيما. الثالث:
أنه لم يكن به مرضٌ احتاج معه إلى الحِجَامة. الرابع: أنَّ هذا الحديث متأخرٌ عن
قوله: «أفطَرَ الحاجِمُ والمحجُومُ».
فإذا ثبتَتْ هذه المقدِّمات الأربعُ، أمكن الاستدلالُ
بفعله ﷺ على بقاء الصوم مع الحِجَامة، وإلا فما المانعُ أن يكونَ الصومُ نفلا يجوز
الخروجُ منه بالحِجَامة وغيرها، أو مِن رمضان لكنه في السَّفر، أو مِن رمضان في
الحَضَر، لكن دعت الحاجةُ إليها كما تدعو حاجة مَن بِهِ مرضٌ إلى الفِطر، أو يكونَ
فرضا من رمضانَ في الحَضَر من غير حاجة إليها، لكنه مُبقَّى على الأصل. وقوله:
«أَفْطَر الحاجمُ والمحجومُ»، ناقل ومتأخِّر.
فيتعيَّن المصيرُ إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع؛ فكيف
بإثباتها كلها.
وفيها: دليلٌ على استئجار الطبيبِ وغيره مِن غير عقد
إجارة، بل يُعطيه أُجرة المِثل، أو ما يُرضيه.
وفيها:
دليلٌ على جواز التكسُّبِ بصناعة الحِجَامة، وإن كان لا
يَطيب للحُرِّ أكلُ أُجرتِهِ من غير تحريم عليه، فإنَّ النبي ﷺ أعطاه أجرَه، ولم
يَمْنَعه من أكله، وتسميتُهُ إياه خبيثا كَتسميته للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم مِن
ذلك تحريمُهما.
وفيها: دليلٌ على جواز ضرب الرجلُ الخراجَ على عبده كُلَّ
يومٍ شيئا معلوما بقدر طاقته، وأنَّ للعبد أن يتصرَّف فيما زاد على خراجه، ولو
مُنِع من التصرف، لكان كسْبُه كلُّه خراجا ولم يكن لتقديره فائدة، بل ما زاد على
خراجه، فهو تمليكٌ من سيده له يتصرَّف فيه كما أراد.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في قَطع العروق والكي
ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله، أنَّ النبي ﷺ
بعَثَ إلى أُبَىِّ بن كعب طَبيبا، فقَطَعَ له عِرْقا وكَواه عليه.
ولما رُمِى سعدُ بن معاذٍ في أكْحَلِهِ حسَمَهُ النبي ﷺ،
ثم ورِمَت، فحسَمهُ الثانية. و«الحَسْمُ» هو: الكَىُّ.
وفي طريق آخر: أنَّ النبي ﷺ كَوَى سعدَ بن مُعاذٍ في
أكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ، ثم حسمَهُ سعد بن مُعاذٍ أو غيرُه من أصحابه.
وفي لفظ آخر: أنّ رجلا من الأنصار رُمِى في أكْحَلِه
بِمِشْقَصٍ، فأمر النبي ﷺ به فكُوِىَ.
وقال أبو عُبيدٍ: وقد أُتِىَ النبي ﷺ برجلٍ نُعِتَ له
الكَىُّ، فقال: «اكْوُوهُ وارْضِفُوهُ». قال أبو عُبيدةَ: الرَّضْفُ: الحجارة
تُسخَّنُ، ثم يُكمدُ بها.
وقال الفضل بن دُكَين: حدَّثنا سُفيانُ، عن أبى
الزُّبير، عن جابرٍ: أنَّ النبي ﷺ كَواهُ في أكْحَلِه.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس، أنه كُوِىَ من ذاتِ
الجَنْبِ والنبي ﷺ حَي.
وفي الترمذي، عن أنسٍ، أنَّ النبي ﷺ «كَوَى أسْعَدَ بن
زُرَارَةَ من الشَّوْكَةِ».
وقد تقدَّم الحديث المتفَقُ عليه وفيه: «ومَا أُحِبُّ أن
أَكْتوِي»، وفى لفظ آخرَ: «وأنا أنْهَى أُمَّتِى عن الْكَي».
وفي «جامع الترمذي» وغيره عن عِمرانَ بن حصينٍ، أنَّ النبي ﷺ نَهَى
عن الكَىِّ قال: فابْتُلِينَا فاكْتويْنا فما أفلحْنا، ولا أنجحنا. وفى لفظ:
نُهِينا عن الكَىِّ وقال: فما أفْلَحْنَ ولا أنْجَحْنَ.
قال الخطابي: إنما كَوى سعدا ليَرْقَأَ الدمُ من جُرحه،
وخاف عليه أنْ يَنْزِفَ فيَهْلِكَ.
والكىُّ مستعملٌ في هذا الباب، كما يُكْوَى مَن تُقطع يدُه
أو رِجلُه.
وأما النهىُ عن الكىِّ، فهو أن يَكتوىَ طلبا للشفاء،
وكانوا يعتقدون أنه متى لم يَكتو، هَلَك، فنهاهم عنه لأجل هذه النيَّةِ.
وقيل:
إنما نَهى عنه عِمران بن حُصَيْنٍ خاصةً، لأنه كان به
ناصُورٌ، وكان موضعه خطِرا، فنهاه عن كيِّه، فيُشْبِهُ أن يكونَ النهىُ منصرفا إلى
الموضع المخوف منه.. والله أعلم.
وقال ابن قتيبة: الكىُّ جنسانِ: كىُّ الصحيح لئلا
يَعتلَّ، فهذا الذي قيل فيه: «لمْ يتوكلْ مَن اكتوَى»، لأنه يُريد أن يَدفعَ
القَدَرَ عن نفسه.
والثاني: كىُّ الجرْح إذا نَغِلَ، والعُضوِ إذا قُطعَ،
ففي هذا الشفاءُ.
وأما إذا كان الكىُّ للتداوى الذي يجوزُ أن ينجَع، ويجوز
أن لا ينجع، فإنه إلى الكراهة أقربُ.. انتهى.
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون
الجنَّةَ بغير حساب أنهم «الذينَ لا يَسْتَرقُونَ، ولا يكتوُونَ، ولا يتطيَّرُونَ،
وعَلَى ربهِمْ يتوكَّلُونَ».
فقد تضمنتْ أحاديثُ الكىِّ أربعةَ أنواع، أحدُها: فعلُه،
والثاني: عدمُ محبته له، والثالث: الثناء على مَن تركه، والرابع: النهى عنه، ولا
تَعَارُض بينها بحمدِ الله تعالى، فإنَّ فِعلَه يدلُّ على جوازه، وعدمَ محبتِه له
لا يدلُّ على المنع منه. وأما الثناءُ على تاركِه، فيدلُّ على أنَّ تَرْكَه أولى
وأفضلُ. وأما النهىُ عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا
يُحتاجُ إليه، بل يفعل خوفا من حدوث الداء.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج الصرع
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبى رباح، قال: قال
ابنُ عباسٍ: ألاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قلتُ: بَلَى. قَالَ:
هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَت النبي ﷺ فقَالَتْ: إنِّى أُصْرَعُ، وَإنِّى
أَتَكَشَّفُ؛ فَادْعُ الله لى، فقَالَ: «إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجنَّةُ؛ وإنْ
شِئْتِ دعوتُ اللهَ لكِ أن يُعافِيَكِ»، فقالت: أصبرُ. قالتْ: فإنى أتكشَّفُ،
فَادعُ الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها.
قلت: الصَّرع صرعان: صَرْعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضية،
وصَرْعٌ من الأخلاطِ الرديئة. والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه.
وأما صَرْعُ الأرواح، فأئْمتُهم وعقلاؤهم يعترفون به،
ولا يدفعونه، ويعترفون بأنَّ علاجه بمقابلةُ الأرواحِ الشريفةِ الخيِّرةِ
العُلْويَّة لتلك الأرواح الشِّريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارضُ أفعالَها
وتُبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعضَ علاج الصَّرْعِ، وقال: هذا
إنما ينفع من الصَّرْع الذي سبَبُه الأخلاط والمادة. وأما الصَّرْع الذي يكون من
الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وأما جهلةُ الأطباء وَسقَطُهم وسفلَتُهم، ومَن يعتقِدُ
بالزندقة فضيلة، فأُولئك يُنكِرون صَرْعَ الأرواح، ولا يُقرون بأنها تُؤثر في بدن
المصروع، وليس معهم إلا الجهلُ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يَدفع ذلك،
والحِسُّ والوجودُ شاهدٌ به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق في بعض أقسامه
لا في كلِّها.
وقدماءُ الأطباء كانوا يُسمون هذا الصَّرْعَ: المرضَ
الإلهي، وقالوا: إنه من الأرواح.
وأما جالينوس وغيرُه، فتأوَّلُوا عليهم هذه التسمية،
وقالوا: إنما سمُّوه بالمرض الإلهى لكون هذه العِلَّة تَحدُث في الرأس، فَتضُرُّ
بالجزء الإلهى الطاهر الذي مسكنُه الدماغُ.
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامِها،
وتأثيراتها، وجاءت زنادقةُ الأطباء فلم يُثبتوا إلا صَرْع الأخلاطِ وحده.
ومَن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتِها يضحَكُ من
جهل هؤلاء وضعف عقولهم
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمْرٍ من جهة المصروع،
وأمْرٍ من جهة المعالِج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوةِ نفسه، وصِدْقِ توجهه إلى
فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوُّذِ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلبُ
واللِّسان، فإنَّ هذا نوعُ محاربةِ، والمحَارب لا يتمُّ له الانتصاف من عدوه
بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا، وأن يكون الساعدُ قويا،
فمتى تخلَّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائلٍ، فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعا:
يكونُ القلب خرابا من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاحَ له.
والثاني: من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران
أيضا، حتى إنَّ من المعالجينَ مَن يكتفى بقوله: «اخرُجْ منه»، أو بقول: «بِسْمِ الله»،
أو بقول: «لا حَوْل ولا قُوَّة إلا بالله»، والنبي ﷺ كان يقولُ: «اخْرُجْ عَدُوَّ
اللهِ، أنا رَسُولُ اللهِ».
وشاهدتُ شيخنَا يُرسِلُ إلى المصروع مَن يخاطبُ الروحَ
التى فيه، ويقول: قال لكِ الشيخُ: اخرُجى، فإنَّ هذا لا يَحِلُّ لكِ، فيُفِيقُ
المصروعُ، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروحُ مارِدةً فيُخرجُها بالضرب،
فيُفيق المصروعُ ولا يُحِس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرُنا منه ذلك مرارا.
وكان كثيرا ما يَقرأ في أُذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }[16].
وحدَّثني أنه قرأها مرة في أُذن المصروع، فقالت الروح:
نعمْ، ومد بها صوته. قال: فأخذتُ له عصا، وضربتُه بها في عروق عنقه حتى كَلَّتْ يدَاىَ
من الضرب، ولم يَشُكَّ الحاضرون أنه يموتُ لذلك الضرب. ففي أثناء الضرب قالت: أَنا
أُحِبُّه، فقلتُ لها: هو لا يحبك. قالتْ: أنَا أُريد أنْ أحُجَّ به. فقلتُ لها: هو
لا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فقالتْ: أنا أدَعُه كَرامةً لكَ، قال: قلتُ: لا
ولكنْ طاعةً للهِ ولرسولِه، قالتْ: فأنا أخرُجُ منه، قال: فقَعَد المصروعُ يَلتفتُ يمينا وشمالا،
وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضربُ كُلُّه؟ فقال: وعلى أي شيء
يَضرِبُنى الشيخ ولم أُذْنِبْ، ولم يَشعُرْ بأنه وقع به الضربُ ألبتة.
وكان يعالِجُ بآية الكرسىِّ، وكان يأمر بكثرة قراءتها
المصروع ومَن يعالجه بها وبقراءة المعوِّذتين.
وبالجملة..
فهذا النوعُ من الصَّرْع، وعلاجه لا يُنكره إلا قليلُ
الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثرُ تسلطِ الأرواح الخبيثةِ على أهلهِ تكون من
جهة قِلَّةِ دينِهم، وخرابِ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذِّكرِ، والتعاويذِ، والتحصُّناتِ
النبوية والإِيمانيَّة، فَتَلْقَى الروحُ الخبيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاح معه،
وربما كان عُريانا فيُؤثر فيه هذا.
ولو كُشِفَ الغِطاء، لرأيتَ أكثرَ النفوسِ البَشَريةِ
صَرْعَى هذه الأرواحِ الخبيثةِ، وهى في أسرِها وقبضتِها تسوقُها حيثُ شاءتْ، ولا
يُمكنُها الامتناعُ عنها ولا مخالفتها، وبها الصَّرْعُ الأعظمُ الذي لا يُفيقُ
صاحبُه إلا عند المفارقةِ والمعاينةِ، فهناك يتَحقَّقُ أنه كان هو المصروعَ
حقيقةً، وبالله المستعان.
وعلاجُ هذا الصَّرْع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان
بما جاءتْ به الرُّسُل، وأن تكون الجنَّةُ والنارُ نُصبَ عينيه وقِبلَة قَلْبِه،
ويستحضر أهلَ الدنيا، وحلول المَثُولاتِ والآفات بهم، ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع
القَطْر، وهُم صَرعَى لا يُفيقون، وما أشدَّ داءَ هذا الصَّرْعِ، ولكن لما عَمَّتِ
البليَّةُ به بحيثُ لا يرى إلا مصروعا، لم يَصرْ مستغرَبا ولا مستنكرا، بل صار
لكثرة المصروعين عَيْنَ المستنكَرِ المستغرَبِ خلافه.
فإذا أراد الله بعبدٍ خيرا أفاقَ من هذه الصَّرْعة، ونظر
إلى أبناء الدنيا مصروعين حولَه يمينا وشمالا على اختلافِ طبقاتهم، فمنهم مَن
أطبَقَ به الجنونُ، ومنهم مَن يُفيق أحيانا قليلةً، ويعودُ إلى جنونه، ومنهم مَن
يُفيق مرةً، ويُجَنُّ أُخرى، فإذا أفاق عَمِل عَمَل أهلِ الإفاقةِ والعقل، ثم
يُعَاوِدُه الصَّرْعُ فيقعُ في التخبط.
فصل في صرع الأخلاط
وأما صَرْعُ الأخلاط، فهو عِلَّةٌ تمنع الأعضاء النفسية
عن الأفعال والحركةِ والانتصابِ منعا غير تام، وسببُه خلطٌ غليظ لزج يسدُّ منافذ
بطون الدماغ سدة غيرَ تامة، فيمتنعُ نفوذُ الحس والحركة فيه وفى الأعضاء نفوذا
تاما من غير انقطاع بالكُلية، وقد تكون لأسباب أُخَر كريح غليظ يحتبسُ في منافذ الروح،
أو بُخارٍ رديء يرتفعُ إليه من بعض الأعضاء، أو كيفيةٍ لاذعة، فينقبِضُ الدماغُ
لدفع المؤذى، فيتبعُه تشنُّجٌ في جميع الأعضاء، ولا يُمكن أن يبقى الإنسان معه
منتصبا، بل يسقُطُ، ويظهرُ في فيه الزَّبَدُ غالبا.
وهذه العِلَّةُ تُعَدُّ من جملة الأمراض الحادة باعتبار
وقت وجوده المؤلم خاصة، وقد تُعَدُّ من جملة الأمراض المُزْمنةِ باعتبار طول
مُكثِها، وعُسْرِ بُرئها، لا سيما إن تجاوز في السن خمسا وعشرين سنة، وهذه
العِلَّة في دماغه، وخاصةً في جوهره، فإنَّ صرْعَ هؤلاء يكون لازما. قال أبقراط: إنَّ
الصَّرْعَ يَبقَى في هؤلاء حتى يموتوا.
إذا عُرِف هذا، فهذه المرأة التى جاء الحديث أنها كانت
تُصرَعُ وتتكشَّفُ، يجوز أن يكون صَرْعُها من هذا النوع، فوعدها النبي ﷺ الجنَّة
بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تتكشَّف، وخيَّرها بين الصبر والجنَّة، وبين
الدعاء لها بالشفاء مِن غير ضمان، فاختارت الصبرَ والجنَّةَ.
وفي ذلك دليلٌ على جواز ترك المعالجةِ والتداوي، وأنَّ
علاجَ الأرواح بالدعواتِ والتوجُّهِ إلى الله يفعلُ ما لا ينالُه علاجُ الأطباء،
وأنَّ تأثيرَه وفعلَه، وتأثُّرَ الطبيعةِ عنه وانفعالها أعظمُ من تأثيرِ الأدويةِ
البدنيةِ، وانفعالِ الطبيعة عنها، وقد جرَّبنا هذا مرارا نحن وغيرُنا، وعقلاءُ
الأطباء معترفون بأنَّ لفعل القُوَى النفسيةِ، وانفعالاتِها في شفاء الأمراض
عجائبَ، وما على الصناعة الطبِّيةِ أضرُّ من زنادقة القوم، وسِفْلتِهم، وجُهالهم.
والظاهر: أنَّ صَرْع هذه المرأة كان من هذا النوع،
ويجوزُ أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله ﷺ قد خيَّرها بين الصبر على ذلك
مع الجنَّة، وبين الدعاء لها بالشفاء، فاختارت الصبرَ والسَّترَ.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج عرق النسا
روى ابن ماجه في سننه من حديث محمد بن سِيرين، عن أنس بن
مالك، قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «دواءُ عِرْقِ النَّسَا ألْيَةُ شاةٍ
أعْرَابِيَّةٍ تُذَابُ، ثمَّ تُجزَّأُ ثلاثةَ أجزاءٍ، ثُمَّ يُشْرَبُ على الرِّيقِ
في كلِّ يومٍ جُزْءٌ».
عِرْقُ النَّسَاء: وجعٌ يبتدىءُ مِن مَفْصِل الوَرِك،
وينزل مِن خلفٍ على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدتُه، زاد نزولُه،
وتُهزَلُ معه الرجلُ والفَخِذُ، وهذا الحديثُ فيه معنى لُّغوى، ومعنى طبي.
فأما المعنى اللغوي: فدليلٌ على جواز تسمية هذا المرض بِعرْقِ
النَّسَا خلافا لمن منع هذه التسمية، وقال: النَّسَا هو العِرْقُ نفسه، فيكونُ من
باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنعٌ.
وجواب هذا القائل من وجهين؛ أحدهما: أنَّ العِرْق أعمُّ
من النَّسَا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو: كُل الدراهم أو بعضها.
الثاني:
أنَّ النَّسَا هو المرضُ الحالُّ بالعِرْق؛ والإضافة فيه
من باب إضافة الشيء إلى محلِّهِ وموضعه. قيل: وسمى بذلك لأن ألمه يُنسِى ما سواه،
وهذا العِرْقُ ممتد من مفْصل الورك، وينتهى إلى آخر القدم وراءَ الكعب من الجانب الوحشى
فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبي: فقد تقدَّم أنَّ كلام رسولِ اللهِ ﷺ
نوعان؛ أحدهما: عامٌ بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثاني:
خاصٌ بحسب هذه الأُمور أو بعضها، وهذا من هذا القِسم،
فإنَّ هذا خطابٌ للعرب، وأهل الحجاز، ومَن جاوَرَهم، ولا سيما أعراب البوادى، فإنَّ
هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإنَّ هذا المرض يَحدث من يُبْس، وقد يحدث من مادة
غليظة لَزِجَة، فعلاجُها بالإسهال و«الألْيَةُ» فيها الخاصيَّتان: الإنضاج،
والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج. وهذا المرضُ يَحتاج علاجه إلى هذين الأمرين.
وفي تعيينِ الشاةِ الأعرابيةِ لقِلةُ فضولِها، وصِغرُ مقدارِها،
ولُطف جوهرها، وخاصيَّةُ مرعاها لأنها ترعى أعشابَ البَرِّ الحارةَ، كالشِّيحِ،
والقَيْصُوم، ونحوهما، وهذه النباتاتُ إذا تغذَّى بها الحيوانُ، صار في لحمه من
طبعِها بعد أن يُلَطِّفَها تغذيةً بها، ويُكسبَها مزاجا ألطَفَ منها، ولا سيما
الألية، وظهورُ فعل هذه النباتاتِ في اللَّبن أقوى منه في اللَّحم، ولكنَّ
الخاصيةَ التى في الألية من الإنضاج والتَّلْيِين لا تُوجد في اللَّبن. وهذا كما
تقدَّم أنَّ أدويةَ غالب الأُمم والبوادى هي بالأدوية المفردة، وعليه أطباءُ الهند.
وأما الروم واليونانُ، فيَعتَنُون بالمركَّبة، وهم
متفِقون كُلُّهم على أنَّ مِن مهارة الطبيب أن يداوى بالغِذاء، فإن عجز فبالمُفرد،
فإن عجز، فبما كان أقلَّ تركيبا.
وقد تقدَّم أنَّ غالب عاداتِ العرب وأهل البوادى
الأمراضُ البسيطةُ، فالأدوية البسيطة تُنَاسبها، وهذا لبساطةِ أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراضُ
المركَّبة، فغالبا ما تحدثُ عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافِها، فاختيرت لها
الأدوية المركَّبة.. والله تعالى أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يمشيه
ويلينه
روى الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أسماء
بنت عُمَيْسٍ، قالت: قال رسول الله ﷺ: «بماذا كُنتِ تَسْتَمْشِينَ»؟ قالت:
بالشُّبْرُم، قال: «حَارٌ جَارٌ». قالت: ثم استمشيْتُ بالسَّنا، فقال: «لو كان شيء
يَشْفِى من الموتِ لكانَ السَّنا».
وفي سنن ابن ماجه عن إبراهيم بن أبى عَبلة، قال: سمعتُ
عبد الله ابن أُم حرام، وكان قد صلَّى مع رسول الله ﷺ القِبْلتين يقول: سمعتُ رسول
الله ﷺ يقول: «عليكم بالسَّنا والسَّنُوت، فإنَّ فيهما شفاءً مِنْ كلِّ داءٍ إلا
السَّامَ»، قيل: يا رسول الله؛ وما السَّامُ؟ قال: «الموتُ».
قوله: «بماذا كنتِ تستمشين»؟ أى: تلينين الطبع حتى يمشى،
ولا يصير بمنزلة الواقف، فيؤذى باحتباس النَّجْوِ. ولهذا سمى الدواءُ المسهل
مَشِيّا على وزن فعيل. وقيل: لأن المسهول يكثر المشى والاختلاف للحاجة.
وقد روي: «بماذا تستشفين»؟ فقالت: بالشُّبْرُم، وهو من
جملة الأدوية اليتوعية، وهو: قِشر عِرْق شجرة، وهو حارٌ يابس في الدرجة الرابعة،
وأجودُه المائل إلى الحُمْرة، الخفيفُ الرقيقُ الذي يُشبه الجلد الملفوف، وبالجملة
فهو من الأدوية التى أوصى الأطباءُ بترك استعمالها لخطرها، وفرطِ إسهالها.
وقوله ﷺ: «حَارٌ جَارٌ» ويُروى: «حَارٌ يَارٌ» قال أبو عُبَيد:
وأكثر كلامهم بالياء. قلت: وفيه قولان، أحدهما: أنَّ الحارَّ الجارَّ بالجيم:
الشديدُ الإسهال؛ فوصفه بالحرارة، وشدةِ الإسهال وكذلك هو.. قاله أبو حنيفةَ
الدِّينوَرِىُّ.
والثاني وهو الصواب: أنَّ هذا من الإتباع الذي يُقصد به
تأكيد الأول، ويكون بين التأكيد اللَّفظى والمعنوى، ولهذا يُراعون فيه إتباعه في
أكثر حروفه، كقولهم: حَسَنٌ بَسَنٌ، أى: كامل الحُسْن. وقولهم: حَسَنٌ قَسَنٌ
بالقاف. ومنه: شَيْطانٌ لَيْطانٌ، وحارٌ جارٌ، مع أنَّ في الجار معنى آخر، وهو
الذي يجر الشيء الذي يُصيبه من شدة حرارته وجذْبِه له، كأنه ينزعه ويسلخهُ. و«يار»
إما لغة في «جار» كقولهم: صِهرى وصِهريج، والصهارى والصهاريج، وإما إتباع مستقل.
وأما «السَّنا»، ففيه لغتان: المد والقصر، وهو نبت حِجازى أفضلُه
المكىّ، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريبٌ من الاعتدال، حارٌ يابس في الدرجة
الأولى، يُسْهِلُ الصفراءَ والسوداءَ، ويقوِّى جِرْمَ القلب، وهذه فضيلة شريفة
فيه، وخاصيته النفعُ من الوسواس السوداوى، ومن الشِّقاق العارض في البدن، ويفتح العَضَل
وينفع من انتشار الشعر، ومن القُمَّل والصُّداعَ العتيق، والجرب، والبثور،
والحِكَّة، والصَّرْع، وشرب مائه مطبوخا أصلحُ مِن شربه مدقوقا، ومقدارُ الشربة
منه ثلاثة دراهمَ، ومن مائه: خمسة دراهم. وإن طُبِخَ معه شيء من زهر البنفسج
والزبيب الأحمر المنزوع العَجَم، كان أصلحَ.
قال الرازي: السَّناء والشاهترج يُسْهلان الأخلاط
المحترقة، وينفعان من الجرب والحِكَّة. والشَّربةُ مِن كل واحد منهما من أربعة
دراهم إلى سبعة دراهم.
وأما «السَّنوتُ» ففيه ثمانية أقوال:
أحدها: أنه العسل.
والثاني: أنه رُبُّ عُكة السمن يخرجُ خططا سوداء على
السمن.
حكاهما عَمْرو بن بكر السَّكْسَكي.
الثالث: أنه حَبٌ يُشبه الكمون وليس به، قاله ابن
الأعرابي.
الرابع: أنه الكَّمون الكرماني.
الخامس: أنه الرازيانج.
حكاهما أبو حنيفةَ الدِّينَوَرِىُّ عن بعض الأعراب.
السادس: أنه الشِّبتُّ.
السابع: أنه التمر.
حكاهما أبو بكر بن السُّنِّي الحافظ.
الثامن: أنه العَسل الذي يكون في زِقاق السمن، حكاه عبد
اللَّطيف البغدادى.
قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب؛
أى: يخلط السَّناء مدقوقا بالعسل المخالط للسمن، ثم يُلعق فيكون أصلحَ من استعماله
مفردا لما في العسل والسمن من إصلاح السَّنا، وإعانته له على الإسهال.. والله أعلم.
وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه: «إنَّ
خَيْرَ مَا تَدَاوَيتُم به السَّعُوطُ واللَّدُودُ والحِجَامةُ والمَشِىُّ».
والمَشِىُّ: هو الذي يمشى الطبعَ وَيُليِّنُه ويُسَهِّلُ
خُروجَ الخارِج.
فصل في هديه ﷺ في علاج حكة الجسم وما يولد القمل
في الصحيحين من حديث قَتادةَ، عن أنس بن مالك قال:
«رخَّص رسولُ اللهِ ﷺ لعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، والزُّبَيْر بن العوَّام رضى الله
تعالى عنهما في لُبْسِ الحريرِ لِحكَّةٍ كانت بهما».
وفي رواية: «أنَّ عبدَ الرَّحمن بن عَوْف، والزُّبَير بن
العوَّام رضى الله تعالى عنهما، شكَوْا القَمْلَ إلى النبي ﷺ، في غَزاةٍ لهما،
فَرَخَّص لهما في قُمُصِ الحرير، ورأيتُه عليهما».
هذا الحديثُ يتعلق به أمران؛ أحدُهما: فِقْهي، والآخر:
طِبي.
فأما الفقهي: فالذي استقرت عليه سُنَّته ﷺ إباحةُ الحرير
للنساء مطلقا، وتحريمه على الرجال إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ، فالحاجة إمَّا من
شِدَّة البرد، ولا يَجِدُ غيرَه، أو لا يجدُ سُترةً سواه. ومنها: لباسه للجرب،
والمرض، والحِكةِ، وكثرة القَمْل كما دلّ عليه حديث أنس هذا الصحيح.
والجواز:
أصح الروايتين عن الإمام أحمدَ، وأصحُ قولى الشافعي، إذ
الأصلُ عدمُ التخصيص، والرخصةُ إذا ثبتت في حقِّ بعض الأُمة لمعنى تعدَّتْ إلى
كُلِّ مَن وُجِدَ فيه ذلك المعنى، إذ الحكمُ يَعُم بعُمُوم سببه.
ومَن منع منه، قال: أحاديثُ التَّحريم عامةٌ، وأحاديثُ
الرُّخصةِ يُحتمل اختصاصُها بعبد الرَّحمن بن عَوف والزُّبَيْر، ويُحتمل تَعديها
إلى غيرهما. وإذا احتُمِلَ الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة
في هذا الحديث: فلا أدرى أبَلغتِ الرُّخصةُ مَنْ بعدهما، أم لا؟
والصحيح:
عمومُ الرُّخصة، فإنه عُرْف خطاب الشرع في ذلك ما لم
يُصرِّحْ بالتخصيص، وعدم إلحاق غير مَن رخَّص له أوَّلا به، كقوله لأبى بُرْدة في
تضحيته بالجذعة من المَعْز: «تجزيكَ ولن تَجْزىَ عن أحدٍ بَعْدَك»، وكقوله تعالى لنبيه
ﷺ في نكاح مَن وهبتْ نفسَها له: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[17].
وتحريمُ الحرير: إنما كان سدا للذرِيعة، ولهذا أُبيح
للنساء، وللحاجة، والمصلحةِ الراجحة، وهذه قاعدةُ ما حُرِّم لسد الذرائع، فإنه
يُباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حَرُمَ النظر سدا لذريعة الفعل، وأُبيح
منه ما تدعو إليه الحاجةُ والمصلحةُ الراجحة، وكما حَرُمَ التنفلُ بالصلاة في
أوقات النهى سدا لذريعة المشابهة الصوريةِ بعُبَّاد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة،
وكما حَرُمَ رِبا الفضلِ سدا لذريعةِ رِبا النَّسيئة، وأُبيح منه ما تدعو إليه
الحاجة من العَرَايا، وقد أشبَعْنا الكلام فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ من لباس الحرير
في كتاب: «التَّحْبِير لِمَا يَحلُّ وَيَحْرُمُ من لِباس الحَريرِ».
فصل في الأمر الطبي للحرير
وأما الأمر الطبي: فهو أنَّ الحرير من الأدوية المتخَذةِ
من الحيوان، ولذلك يُعَد في الأدوية الحيوانية، لأن مخرجَه من الحيوان، وهو كثيرُ
المنافع، جليلُ الموقع، ومِن خاصيَّتِه تقويةُ القلب، وتَفريحُه، والنفع من كثير
من أمراضه، ومِن غلبة المِرَّةِ السوداء، والأدواءِ الحادثة عنها، وهو مُقوٍ للبصر
إذا اكتُحِلَ به، والخامُ منه وهو المستعمَلُ في صناعة الطب حار يابس في الدرجة
الأولى. وقيل: حار رطب فيها. وقيل: معتدل. وإذا اتُّخِذَ منه ملبوسٌ كان معتدل الحرارة
في مزاجه، مسخِّنا للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه.
قال الرازي: الإبْرَيْسَمُ أسخنُ من الكَتَّان، وأبردُ
من القطن، يُربى اللحمَ، وكلُّ لباس خشن، فإنه يُهزِلُ، ويصلب البَشْرة وبالعكس.
قلتُ:
والملابسُ ثلاثة أقسام: قسمٌ يُسخن البدن ويُدفئه، وقسمٌ
يُدفئه ولا يُسخنه، وقسمٌ لا يُسخنه ولا يدُفئُه، وليس هناك ما يُسخنه ولا يُدفئه،
إذ ما يُسخنه فهو أولى بتدفئته، فملابسُ الأوبار والأصواف تُسخن وتُدفىء، وملابسُ
الكَتَّان والحرير والقطن تُدفىءُ ولا تُسخن. فثياب الكَتَّان باردة يابسة، وثيابُ
الصوف حارة يابسة، وثيابُ القطنِ معتدلةُ الحرارة، وثيابُ الحرير ألينُ من القطن
وأقل حرارةً منه.
قال صاحب المنهاج: «ولُبْسه لا يُسخن كالقُطن، بل هو
معتدل، وكُلُّ لباس أملسَ صقيلٍ، فإنه أقلُّ إسخانا للبدن، وأقلُّ عونا في تحلل ما
يتحلل منه، وأحْرَى أن يُلبسَ في الصيف، وفى البلاد الحارة»
ولمّا كانت ثيابُ الحرير كذلك، وليس فيها شيء من اليُبْس
والخشونة الكائنين في غيرها، صارت نافعة من الحِكَّة، إذ الحِكَّة لا تكونُ إلا عن
حرارة ويبسٍ وخشونةٍ، فلذلك رخَّص رسولُ الله ﷺ للزُّبَيْر وعبدِ الرَّحمن في لباس
الحرير لمداواةِ الحِكَّةِ، وثيابُ الحرير أبعدُ عن تولُّدِ القمل فيها، إذ كان
مِزَاجُها مخالفا لِمزاج ما يتولَّدُ منه القمل.
وأما القسمُ الذي لا يُدفىء ولا يُسخن، فالمتخَذ من
الحديدِ، والرصاص، والخشب، والتُّراب... ونحوها، فإن قيل: فإذا كان لباسُ الحرير
أعدلَ اللباس وأوفَقَه للبدن، فلماذا حرَّمتْه الشريعة الكاملةُ الفاضلةُ التى
أباحت الطيباتِ، وحرَّمت الخبائث؟
قيل: هذا السؤال يجيبُ عنه كلُّ طائفةٍ من طوائف
المسلمين بجوابٍ، فمُنْكِرُو الحِكَم والتَّعليلِ لمَّا رُفعِت قاعدةُ التعليلِ من
أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال.
ومُثْبِتُو التعليلِ والحِكَم وهم الأكثرون منهم مَن
يُجيبُ عن هذا بأن الشريعةَ حرَّمته لتَصبِرَ النفوسُ عنه، وتَترُكَه لله، فتُثاب
على ذلك لا سيما ولها عوضٌ عنه بغيره.
ومنهم مَن يُجيبُ عنه بأن خُلِقَ في الأصل للنساء،
كالحلية بالذهب، فَحَرُمَ على الرجالِ لما فيه من مَفسدةِ تَشَبُّه الرجالِ
بالنساء.
ومنهم مَن قال: حَرُمَ لما يُورثُه من الفَخْر
والخُيَلاء والعُجْب.
ومنهم مَن قال: حَرُمَ لما يُورثه بملامسته للبدن من
الأُنوثةِ والتَّخَنُّثِ، وضدِّ الشَّهامة والرجولةِ، فإن لُبْسه يُكسبُ القلبَ
صفة من صفات الإناث، ولهذا لا تكاد تجدُ مَن يَلبَسُه في الأكثر إلا وعلى شمائله
من التخنُّثِ والتأنُّثِ، والرَّخَاوةِ ما لا يَخفى، حتى لو كان من أشهم الناس
وأكثرِهم فحوليةِ ورُجولية، فلا بد أن يَنْقُصَه لُبْسُ الحرير منها، وإن لم يُذهبْهَا،
وَمَن غَلُظتْ طِباعُه وكَثُفَتْ عن فهم هذا، فليُسَلِّم للشارع الحكيم، ولهذا كان
أصح القولين: أنه يَحرم على الولى أن يُلبسه الصبىَّ لما يَنشأ عليه من صفات أهل
التأنيث.
وقد روى النسائي من حديث أبى موسى الأشعرىِّ، عن النبي ﷺ
أنه قال: «إنَّ اللهَ أحلَّ لإِناثِ أُمَّتِى الحريرَ والذَّهبَ، وحَرَّمَه عَلى
ذُكُورِها».
وفي لفظٍ: «حُرِّمَ لِباسُ الحَريرِ والذَّهَبِ عَلى
ذُكورِ أُمَّتى، وأُحِلَّ لإِناثِهِم».
وفي صحيح البخاري عن حُذَيفة، قال: «نهى رسولُ الله ﷺ عن
لُبْس الحرير والدِّيباجِ، وأن يُجلَسَ عليه»، وقال: «هُو لهم في الدُّنيا، ولكم
في الآخِرَة».
فصل في هديه ﷺ في علاج ذات الجنب
روى الترمذي في جامعه من حديث زيد بن أرقمَ، أنَّ النبي
ﷺ، قال: «تَدَاوَوْا مِنْ ذاتِ الجَنْبِ بالقُسْطِ البَحْرى والزَّيْتِ».
وذاتُ الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقى وغيرُ حقيقى.
فالحقيقى: ورمٌ حار يَعْرِضُ في نواحى الجَنب في الغشاء المستبطن للأضلاع. وغير
الحقيقى: ألم يُشبهه يَعْرِضُ في نواحى الجنبِ عن رياح غليظة مؤذيةٍ تحتقِن بين
الصِّفاقات، فتُحْدِث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقى، إلا أن الوجعَ في هذا
القسم ممدودٌ، وفى الحقيقى ناخسٌ.
قال صاحبُ القانون: قد يعرِضُ في الجنبِ، والصَّفاقات،
والعَضَل التى في الصدر، والأضلاع، ونواحيها أورامٌ مؤذية جدا موجِعةٌ، تسمى
شَوْصةً وَبِرساما، وذاتَ الجنب. وقد تكون أيضا أوجاعا في هذه الأعضاء ليست من
ورم، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العِلَّة، ولا تكون منها.
قال: واعلم أنَّ كُلَّ وجع في الجنب قد يُسمى ذاتَ الجنب
اشتقاقا من مكان الألم، لأن معنى ذات الجنب: صاحبةُ الجنب، والغرضُ به ههنا وَجَعُ
الجنب، فإذا عَرَضَ في الجنب ألمٌ عن أي سبب كانَ نُسِبَ إليه، وعليه حُمِلَ كلام
بقراط في قوله: إنَّ أصحابَ ذات الجنبِ ينتفعون بالحَمَّام. قيل: المراد به كلُّ
مَن به وجعُ جنب، أو وجعُ رِئة من سوء مِزاج، أو من أخلاط غليظة، أو لذاعة من غير
ورم ولا حُمَّى.
قال بعضُ الأطباء: وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان،
فهو ورمُ الجَنب الحار، وكذلك ورمُ كل واحد من الأعضاء الباطنة، وإنما سمى ذاتَ
الجنب ورمُ ذلك العضو إذا كان ورما حارا فقط.
ويلزم ذاتَ الجنب الحقيقى خمسةُ أعراض، وهى: الحُمَّى،
والسعال، والوجع الناخس، وضيق النَّفَس، والنبضُ المنشارى.
والعلاج الموجود في الحديث، ليس هو لهذا القسم، لكن
للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة، فإنَّ القُسْطَ البحرى وهو العود الهندى
على ما جاء مفسَّرا في أحاديث أُخَر صِنفٌ من القُسْط إذا دُقَّ دقا ناعما، وخُلِط
بالزيت المسخن، ودُلِكَ به مكانُ الريح المذكور، أو لُعِق، كان دواءً موافقا لذلك،
نافعا له، محلِّلا لمادته، مُذْهِبا لها، مقويا للأعضاء الباطنة، مفتحا للسُّدد، والعودُ
المذكور في منافعه كذلك.
قال المسيحي: العود: حار يابس، قابض يحبسُ البطن، ويُقوى
الأعضاء الباطنة، ويطرُد الريح، ويفتح السُّدد، نافعٌ من ذات الجنب، ويُذهب فضلَ
الرطوبة، والعُود المذكور جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع القُسْط مِن ذات الجنب
الحقيقيةِ أيضا إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية، لا سيما في وقت انحطاط العِلَّة..
والله أعلم.
وذاتُ الجنب: من الأمراض الخطرة، وفى الحديث الصحيح: عن
أُم سلمةَ، أنها قالت: بدأ رسولُ الله ﷺ بمرضِه في بيت ميمُونةَ، وكان كلَّما خَفَّ
عليه، خرجَ وصلَّى بالناس، وكان كلَّما وَجَد ثِقَلا، قال: «مُرُوا أبا بكرٍ
فليُصَلِّ بالناس»، واشتد شكواه حتى غُمِرَ عليه مِن شدةِ الوجع، فاجتمع عنده
نساؤه، وعمُّه العباس، وأُمُّ الفضل بنت الحارث، وأسماءُ بنت عُمَيْس، فتشاوروا في
لدِّهِ، فَلدُّوه وهو مغمورٌ، فلما أفاق قال: «مَن فعل بى هذا؟ هذا من عمل نساءٍ
جِئْنَ من ههُنا»، وأشار بيده إلى أرضِ الحبشةِ، وكانت أُمُّ سلمةَ وأسماءُ
لَدَّتاهُ، فقالوا: يا رسولَ الله؛ خشِينَا أن يكون بكَ ذاتُ الجنب. قال: «فَبِمَ
لَدَدْتُمُونى»؟ قالوا: بالعُودِ الهندىِّ، وشيء من وَرْسٍ وقَطِرَاتٍ من زيت.
فقال: «ما كان اللهُ لِيَقْذِفَنِى بذلك الدَّاءِ»، ثم قال: «عَزَمْتُ عليكم أنْ
لا يَبْقى في البيتِ أحدٌ إلا لُدَّ إلا عَمِّىَ العَبَّاس».
وفي الصحيحين عن عائشةَ رضى الله تعالى عنها قالت:
لَدْدنَا رسولَ الله ﷺ، فأشار أن لا تَلُدُّونِى، فقلنا: كراهِيةُ المريض للدواءِ، فلما أفاق
قال: «ألم أنْهَكُمْ أن تَلُدُّونِى، لا يَبْقَى منكم أحدٌ إلا لُدَّ غَيْرَ
عَمِّى العباس، فإنَّه لَمْ يَشْهَدْكُم».
قال أبو عبيد عن الأصمعىِّ: اللَّدُودُ: ما يُسقى الإنسان
في أحد شِقَّى الفم، أُخِذ من لَدِيدَى الوادى، وهما جانباه. وأما الوَجُورُ: فهو
في وسط الفم.
قلت: واللَّدود بالفتح: هو الدواءُ الذي يُلَدَّ به.
والسَّعوطُ: ما أُدخل من أنفه.
وفي هذا الحديث من الفقه معاقبةُ الجانى بمثل ما فعل
سواء، إذا لم يكن فِعلُه محرما لحق الله، وهذا هو الصوابُ المقطوع به لبضعةَ عشر
دليلا قد ذكرناها في موضع آخر، وهو منصوص أحمد، وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين،
وترجمة المسألة بالقِصاص في اللَّطمة والضربة، وفيها عدةُ أحاديث لا مُعارِضَ لها ألبتة،
فيتعين القولُ بها.
فصل في هديه ﷺ في علاج الصداع والشقيقة
روى ابن ماجه في سننه حديثا في صحته نظر: أنَّ النبي ﷺ
كان إذا صُدِع، غَلَّفَ رأسَه بالحنَّاءِ، ويقول: «إنَّهُ نافعٌ بإذنِ الله من
الصُّداعِ».
والصُّدَاع:
ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه في أحد
شِقَّى الرأس لازما يُسمَّى شقيقةً؛ وإن كان شاملا لجميعه لازما، يسمى بَيضْةً
وخُودَةً تشبيها بِبَيْضَة السلاح التى تشتمل على الرأس كلِّه، وربما كان في
مؤخَّر الرأس أو في مقدمه.
وأنواعه كثيرة، وأسبابه مختلفة. وحقيقة الصُّداع: سخونةُ
الرأس، واحتماؤه لما دار فيه مِن البخار يطلُب النفوذ من الرأس، فلا يجد منفذا،
فيصدَعُه كما يصدع الوَعىُ إذا حمى ما فيه وطلب النفوذ، فكل شيء رطب إذا حمى، طلب
مكانا أوسع من مكانه الذي كان فيه، فإذا عرض هذا البخار في الرأس كله بحيث لا
يمكنه التَّفَشِّى والتحلل، وجال في الرأس، سمى: السَّدرَ.
والصُّداع يكون عن أسباب عديدة:
أحدها: من غلبة واحد من الطبائع الأربعة.
والخامس: يكون من قروح تكون في المعدة، فيألم الرأس لذلك
الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة.
والسادس: من ريح غليظة تكون في المعدة، فتصعَدُ إلى
الرأس فتصدعه.
والسابع: يكون من ورم في عروق المعدة، فيألمُ الرأسُ
بألم المعدة للاتصال الذي بينهما.
والثامن: صُداع يحصل من امتلاء المعدة من الطعام، ثم
ينحدر ويبقى بعضُه نيئا، فيصدَع الرأس ويثقله.
والتاسع: يعرض بعد الجِمَاع لتخلخل الجسم، فيصل إليه مِن
حر الهواء أكثرُ من قدر.
والعاشر: صداع يحصُل بعد القيء والاستفراغ، إما لغلبة
اليبس، وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه.
والحادي عشر: صُداع يعرِضُ عن شدة الحر وسخونة الهواء.
والثاني عشر: ما يَعْرِضُ من شدة البرد، وتكاثفِ الأبخرة
في الرأس وعدم تحَلُّلها.
والثالث عشر: ما يحدُث مِن السهر وعدم النوم.
والرابع عشر: ما يحدُث مِن ضغط الرأس وحمل الشيء الثقيل
عليه.
والخامس عشر: ما يحدُث مِن كثرة الكلام، فتضعف قوةُ
الدماغ لأجله.
والسادس عشر: ما يحدُث مِن كثرة الحركة والرياضة المفرطة.
والسابع عشر: ما يحدُث من الأعراض النفسانية، كالهموم،
والغموم، والأحزان، والوساوس، والأفكار الرديئة.
والثامن عشر: ما يحدُث من شدة الجوع، فإن الأبخرة لا تجد
ما تعمل فيه، فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه.
والتاسع عشر: ما يحدُث عن ورم في صِفاق الدماغ، ويجد
صاحبُه كأنه يُضْرَب بالمطارق على رأسه.
والعشرون: ما يحدُث بسبب الحُمَّى لاشتعال حرارتها فيه
فيتألم.. والله أعلم.
فصل في سبب صداع الشقيقة
وسبب صُداع الشقيقة مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة
فيها، أو مرتقية إليها، فيقبلُها الجانب الأضعف من جانبيه، وتلك المادةُ إما
بُخارية، وإما أخلاط حارة أو باردة، وعلامتُها الخاصة بها ضرَبان الشرايين، وخاصة
في الدموى. وإذا ضُبِطت بالعصائب، ومُنِعت من الضَّربَان، سكن الوجع.
وقد ذكر أبو نعيم في كتاب «الطب النبوي» له: أنَّ هذا
النوع كان يُصيب النبي ﷺ، فيمكث اليوم واليومين، ولا يخرج.
وفيه: عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله ﷺ، وقد عَصَبَ
رأسه بعِصَابةٍ.
وفي الصحيح: أنه قال في مرض موته: «وَارَأْسَاهُ». وكان
يُعصِّبُ رأسه في مرضه، وعَصْبُ الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس.
فصل في علاج صداع الشقيقة
وعلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه، فمنه ما علاجُه
بالاستفراغ، ومنه ما علاجُه بتناول الغذاء، ومنه ما علاجه بالسُّكون والدَّعة،
ومنه ما علاجه بالضِّمادات، ومنه ما علاجُه بالتبريد، ومنه ما علاجُه بالتسخين،
ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماعَ الأصواتِ والحركات.
إذا عُرِفَ هذا، فعلاج الصُّداع في هذا الحديث
بالحِنَّاء، هو جزئى لا كُلِّى، وهو علاج نوع من أنواعِه، فإن الصُّداع إذا كان من
حرارة ملهبة، ولم يكن من مادةٍ يجب استفراغها، نفع فيه الحِنَّاء نفعا ظاهرا، وإذا
دُقَّ وضُمِّدَتْ به الجبهةُ مع الخل، سكن الصُّداع، وفيه قوة موافقة للعصب إذا
ضُمِّدَ به، سكنت أوجاعُه، وهذا لا يختصُّ بوجع الرأس، بل يعُمُّ الأعضاءَ، وفيه
قبض تُشَدُّ به الأعضاء، وإذا ضُمِّدَ به موضعُ الورم الحار والملتهب، سكَّنه.
وقد روى البخاري في «تاريخه»، وأبو داود في السنن أنَّ
رسولَ الله ﷺ ما شَكا إليه أحدٌ وجَعا في رأسِهِ إلا قال له: «احْتَجِمْ»، ولا
شَكى إليه وجَعا في رجلَيْه إلا قال له: «اخْتَضِبْ بالحِنَّاء».
وفي الترمذي: عن سَلْمَى أُمِّ رافعٍ خادمِة النبي ﷺ
قالتْ: كان لا يُصيبُ النبي ﷺ قرحةٌ ولا شَوْكةٌ، إلا وَضَع عليها الحِنَّاءَ
فصل في الحناء ومنافعه وخواصه
والحِنَّاءُ باردٌ في الأُولى، يابسٌ في الثانية، وقوةُ
شجر الحِنَّاء وأغصانها مُركَّبةٌ من قوة محللة اكتسبتْها من جوهر فيها مائى، حار
باعتدال، ومِن قوة قابضة اكتسبتْها من جوهر فيها أرضى بارد.
ومن منافعه أنه محلِّلٌ نافع من حرق النار، وفيه قوةٌ
موافقة للعصب إذا ضُمِّدَ به، وينفع إذا مُضِغ من قُروح الفم والسُّلاق العارض
فيه. ويبرىءُ القُلاع الحادث في أفواه الصبيان، والضِّماد به ينفعُ مِن الأورام
الحارة الملهبة، ويفعَلُ في الجراحات فِعل دم الأخوَين، وإذا خُلِطَ نَوْرُه مع
الشمع المصفَّى، ودُهن الورد، ينفع من أوجاع الجنب.
ومن خواصه أنه إذا بدأ الجُدرِىُّ يخرج بصبى، فخُضِبَت
أسافل رجليهِ بحنَّاءٍ، فإنه يُؤمَنُ على عينيه أن يخرُج فيها شيء منه، وهذا صحيح
مُجرَّب لا شك فيه. وإذا جُعِل نَوْرُه بين طى ثياب الصوف طيَّبها، ومنع السوس
عنها، وإذا نُقِعَ ورقُه في ماءٍ عذب يغمُره، ثم عُصِرَ وشُرِبَ من صفوه أربعين
يوما كلَّ يوم عشرون درهما مع عشرة دراهم سكر، ويُغذَّى عليه بلحم الضأن الصغير،
فإنه ينفع من ابتداء الجُذام بخاصيةٍ فيه عجيبة.
وحُكي أنَّ رجلا تشقَّقَتْ أظافيرُ أصابِع يده، وأنه بذل
لمن يُبرئه مالا، فلم يجد، فوصفت له امرأة، أن يشرب عشرة أيام حِناء، فلم يُقْدِم
عليه، ثم نقعه بماء وشربه، فبرأ ورجعت أظافيرُه إلى حسنها.
والحِنَّاء إذا أُلزِمَتْ به الأظفار معجونا حسَّنها ونفعها،
وإذا عُجِنَ بالسمن وضُمِّدَ به بقايا الأورام الحارة التى تَرْشَحُ ماءً أصفر نفعها،
ونفع من الجرَب المتقرِّح المزمن منفعة بليغة، وهو يُنْبت الشعرَ ويقويه،
ويُحَسِّنه، ويُقوِّى الرأس، وينفع من النَّفَّاطات، والبُثور العارضة في الساقين
والرِّجْلين، وسائر البدن.
فصل في هديه ﷺ في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه
من الطعام والشراب وأنهم لا يكرهون على تناولهما
روى الترمذي في جامعه، وابنُ ماجه، عن عقبة بن عامر
الجُهَنِى، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «لا تُكْرِهوا مَرضاكُم عَلَى الطَّعامِ
والشَّرابِ، فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُطْعِمُهُم ويَسْقِيهمْ».
قال بعضُ فضلاء الأطباء: ما أغزرَ فوائدَ هذه الكلمة
النبوية المشتملة على حِكم إلهية، لا سِيَّما للأطباء، ولمن يُعالِج المرضى، وذلك
أنَّ المريضَ إذا عاف الطعامَ أو الشراب، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض، أو
لسقوط شهوته، أو نُقْصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها، وكيفما كان، فلا يجوز
حينئذ إعطاءُ الغِذاء في هذه الحالة.
واعلم أنَّ الجوعَ إنما هو طلبُ الأعضاء للغذاء لتُخلِفَ
الطبيعة به عليها عِوضَ ما يتحلل منها، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا
حتى ينتهىَ الجذبُ إلى المعدة، فيُحِسُّ الإنسان بالجوع، فيطلبُ الغِذاء، وإذا
وُجِدَ المرض، اشتغلت الطبيعةُ بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء، أو
الشراب، فإذا أُكْرِهَ المريضُ على استعمال شيء من ذلك، تعطلَّتْ به الطبيعة عن
فعلها، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه، فيكون ذلك سببا لضرر
المريض، ولا سِيَّما في أوقات البُحْران، أو ضعفِ الحار الغريزى أو خمودِه، فيكون
ذلك زيادةً في البلية، وتعجيل النازلة المتوقَّعةَ. ولا ينبغي أن يُستعمل في هذا
الوقتِ والحال إلا ما يحفظُ عليه قوَّته ويُقويها مِن غير استعمال مزعج للطبيعة
ألبتة، وذلك يكونُ بما لَطُفَ قِوامه من الأشربة والأغذية، واعتدلَ مِزاجه كشراب اللَّينوفر،
والتفاح، والورد الطري، وما أشبه ذلك، ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة
فقط، وإنعاش قواه بالأراييح العَطِرَة الموافقة، والأخبار السارة، فإنَّ الطبيبَ
خادمُ الطبيعة، ومعينها لا معيقها.
واعلم أنَّ الدم الجيد هو المُغَذِّى للبدن، وأنَّ
البلغم دم فج قد نضج بعضَ النضج، فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير، وعُدِم
الغذاءُ، عطفت الطبيعةُ عليه، وطبخته، وأنضجته، وصيَّرته دما، وغَذَّت به الأعضاء،
واكتفت به عما سواه، والطبيعةُ هي القوة التى وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه
وصحته، وحراسته مدة حياته.
واعلم أنه قد يُحتاج في النَّدرة إلى إجبار المريض على
الطعام والشراب، وذلك في الأمراض التى يكون معها اختلاطُ العقل، وعلى هذا فيكونُ
الحديثُ من العامِّ المخصوص، أو من المُطْلَقِ الذي قد دلَّ على تقييده دليلٌ،
ومعنى الحديث: أنَّ المريضَ قد يعيش بلا غذاء أياما لا يعيش الصحيحُ في مثلها.
وفي قوله ﷺ: «فإنَّ الله يُطعِمُهم ويَسْقِيهِم» معنى
لطيفٌ زائد على ما ذكره الأطباءُ لا يعرفُه إلا مَن له عناية بأحكام القُلوب
والأرواح، وتأثيرها في طبيعة البَدن، وانفعالِ الطبيعة عنها، كما تنفعل هي كثيرا
عن الطبيعة، ونحن نُشير إليه إشارةً، فنقول: النَّفْسُ إذا حصل لها ما يشغَلُها
مِن محبوبٍ أو مكروهٍ أو مَخُوف، اشتغلَتْ به عن طلب الغِذاء والشراب، فلا تُحِسُّ
بجوع ولا عطش، بل ولا حر ولا برد، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم،
فلا تُحِسُّ به، وما من أحد إلا وقد وجدَ في نفسه ذلك أو شيئا منه، وإذا اشتغلتْ
النفس بما دهمها، وورد عليها، لم تُحِسَّ بألم الجوع، فإن كان الوارد مفرِّحا
قوىَّ التفريح، قام لها مَقامَ الغِذاء، فشبعتْ به، وانتعشتْ قُواها، وتضاعفَت، وجرت
الدمويةُ في الجسد حتى تظهر في سطحه، فيُشرِقُ وجهه، وتظهر دمويتهُ، فإنَّ الفرح
يُوجبُ انبساطَ دم القلب، فينبعثُ في العروق، فتمتلئُ به، فلا تطلبُ الأعضاءُ
حَظَّها من الغذاءِ المعتاد لاشتغالها بما هو أحبُّ إليها، وإلى الطبيعة منه،
والطبيعةُ إذا ظَفِرَتْ بما تُحبُّ، آثرتْه على ما هو دونه.
وإن كان الواردُ مؤلما أو محزنا أو مخوفا، اشتغلتْ
بمحاربتِه ومُقاومتِه ومُدافعته عن طلب الغذاء، فهى في حال حربها في شغل عن طلب الطعام
والشراب. فإن ظفرتْ في هذا الحرب، انتعشت قواها، وأخلَفت عليها نظيرَ ما فاتها من
قوة الطعام والشراب، وإن كانت مغلوبةً مقهورة، انحطَّتْ قواها بحسب ما حصل لها من
ذلك، وإن كانت الحربُ بينها وبين هذا العدوِّ سِجالا، فالقوةُ تظهرُ تارةً وتختفى
أُخرى، وبالجملة فالحربُ بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين،
والنصرُ للغالبِ، والمغلوب إما قتيل، وإما جريح، وإما أسير.
فالمريض: له مَددٌ مِنَ الله تعالى يُغذيه به زائدا على
ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم، وهذا المَددُ بحسب ضعفِه وانكسارِه وانطِراحِه
بين يدى ربه عَزَّ وجَلَّ، فيحصُل له من ذلك ما يُوجب له قُربا من ربه، فإنَّ
العبدَ أقربُ ما يكون من ربه إذا انكسر قلبُهُ، ورحمةُ ربه عندئذٍ قريبة منه، فإن
كان وليا له، حصل له من الأغذية القلبية ما تَقْوى به قُوَى طبيعته، وتَنتعشُ به
قواه أعظمَ مِن قوتها، وانتعاشها بالأغذية البدنية، وكلما قَوى إيمانُه وحُبُّه
لربه، وأُنسُه به، وفرحُه به، وقَوى يقينه بربه، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه،
وجَدَ في نفسه من هذه القوة ما لا يُعَبَّرُ عنه، ولا يُدركُه وصف طبيب، ولا
يَنالُه علمه.
ومَن غَلُظ طبعُه، وكَثُفتْ نفسُه عن فهم هذا والتصديق
به، فلينظرْ حالَ كثير من عُشَّاقِ الصور الذين قد امتلأتْ قلوبُهم بحُب ما
يعشَقوُنه من صُورةٍ، أو جاهٍ، أو مال، أو علم، وقد شاهد الناسُ من هذا عجائبَ في
أنفسهم وفى غيرهم.
وقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ، أنه كان يُواصلُ في
الصِّيام الأيامَ ذواتِ العددِ، وينهَى أصحابه عن الوِصال ويقول: «لستُ كَهَيْئَتِكُمْ
إنى أَظَلُّ يُطعِمُنى رَبِّى ويَسْقِينى».
ومعلومٌ أنَّ هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي
يأكله الإنسانُ بفمه، وإلا لم يكن مواصلا، ولم يتحقق الفرق، بل لم يكن صائما، فإنه
قال: «أَظَلُّ يُطْعِمُنى رَبِّى ويَسْقِينى».
وأيضا فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوِصال، وأنه
يَقدِرُ منه على ما لا يقدِرُون عليه، فلو كان يأكلُ ويشرب بفمه، لم يَقُلْ:
«لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم»، وإنما فَهِمَ هذا من الحديث مَنْ قَلَّ نصيبُه من غذاء
الأرواح والقلوب، وتأثيرِهِ في القوة وإنعاشِها، واغتذائها به فوقَ تأثير الغِذاء
الجسمانىِّ.. والله الموفق.
فصل في هديه ﷺ في علاج العذرة وفى العلاج بالسعوط
ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُم
به الحِجَامةُ، والقُسْطُ البَحْرِىُّ، ولا تُعَذِّبُوا صِبْيانَكُمْ بالغَمْزِ من
العُذْرَةِ».
وفي السنن والمسند عنه من حديث جابر بن عبد الله قال: دَخَلَ رسولُ
الله ﷺ على عائشة، وعِندَها صَبِىٌ يَسِيلُ مَنخراهُ دما، فقال: «ما هذا»؟ فقالوا:
به العُذرةُ، أو وَجعٌ في رأسه، فقال: «وَيلكُنَّ، لا تَقْتُلنَ أَوْلادَكُنَّ،
أيُّما امرأةٍ أصابَ وَلَدَها عُذْرَةٌ أو وَجَعٌ في رأسِه، فَلْتَأخُذْ قُسْطا
هِنْدِيَّا فَلْتَحُكَّه بماءٍ، ثم تُسْعِطْهُ إيَّاهُ» فأمَرتْ عائشةُ رضي الله
عنها فصُنِعَ ذلك بالصبىِّ، فبَرَأَ.
قال أبو عُبيدٍ عن أبى عُبيدَةَ: العُذْرَةُ: تهيُّجٌ في
الحَلْق من الدم، فإذا عُولج منه، قيل: قد عُذِرَ به، فهو معذورٌ.. انتهى.
وقيل: العُذْرَةُ: قرحة تخرج فيما بين الأذُن والحلق،
وتَعرض للصبيان غالبا.
وأما نفعُ السَّعوط منها بالقُسْط المحكوك، فلأن
العُذْرَةُ مادتُها دم يغلب عليه البلغمُ، لكن تولده في أبدان الصبيان أكثر، وفى
القُسْط تجفيفٌ يَشُدُّ اللَّهاةَ ويرفعها إلى مكانها، وقد يكون نفعُه في هذا
الداء بالخاصية، وقد ينفع في الأدواء الحارة، والأدوية الحارة بالذات تارة، وبالعرض
أُخرى. وقد ذكر صاحب القانون في معالجة سُقوط اللَّهَاة: القُسطَ مع الشَّب
اليمانىِّ، وبذر المرو.
والقُسْطُ البحرىُّ المذكور في الحديث: هو العود الهندى،
وهو الأبيض منه، وهو حلو، وفيه منافعُ عديدة. وكانوا يُعالجون أولادَهم بغَمز
اللَّهاة، وبالعِلاَق، وهو: شيء يُعلِّقونه على الصبيان، فنهاهم النبي ﷺ عن ذلك،
وأرشدهم إلى ما هو أنفعُ للأطفال، وأسهلُ عليهم.
والسَّعوطُ: ما يُصَبُّ في الأنف، وقد يكون بأدوية مفردة
ومُركَّبة تُدَق وتُنخل وتُعجن وتُجفف، ثم تُحَلُّ عند الحاجة، ويُسعط بها في أنف
الإنسان، وهو مستلقٍ على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعُهما لتنخفض رأسُه، فيتمكن
السَّعوطُ من الوصول إلى دماغه، ويُستخرج ما فيه من الداء بالعطاس، وقد مدح النبي
ﷺ التداويَ بالسَّعوط فيما يُحتاج إليه فيه.
وذكر أبو داودَ في سننه: «أنَّ النبي ﷺ اسْتَعطَ».
فصل في هديه ﷺ في علاج المفؤود
روى أبو داود في سننه من حديث مُجاهدٍ، عن سعد، قال:
«مَرضتُ مرضا، فأتَانِى رسولُ الله ﷺ يَعُودنى، فَوَضَعَ يَدَه بين ثَديَىَّ
حَتَّى وَجَدتُ بَرْدَها على فؤادى، وقال لى: إنَّكَ رجُلٌ مَفْؤُودٌ فأْتِ
الحارَثَ بن كَلَدَةَ من ثَقِيفٍ، فإنَّه رجلٌ يتطبَّبُ، فلْيأْخُذْ سبعَ تَمَراتٍ
من عَجْوَةِ المدينةِ، فلْيَجأْهُنَّ بِنَواهُنَّ، ثم لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ».
المفؤود: الذي أُصيب فؤادُه، فهو يشتكيه، كالمبطون الذي
يشتكى بطنه.
واللَّدُود: ما يُسقاه الإنسانُ من أحد جانبى الفم.
وفي التَّمْر خاصيَّةٌ عجيبةٌ لهذا الداء، ولا سِيَّما
تمرَ المدينة، ولا سِيَّما العجوة منه، وفى كونها سبعا خاصيةٌ أُخرى، تُدرَك
بالوحى، وفى الصحيحين: من حديث عامر بن سعد بن أبى وَقَّاصٍ، عن أبيه قال: قال
رسول الله ﷺ: «مَنْ تَصَبَّحَ بسبعِ تَمَرَاتٍ من تَمْرِ العَالِيَة لم يَضُرَّهُ
ذلك اليومَ سَمٌ ولا سِحْرٌ».
وفي لفظ: «مَن أكل سَبْعَ تمراتٍ ممَّا بَيْن
لاَبَتَيْها حينَ يُصبحُ، لم يَضُرَّهُ سَمٌ حتى يُمْسِى».
والتَّمْرُ حارٌ في الثانية، يابس في الأُولى. وقيل:
رطبٌ فيها. وقيل: معتدل، وهو غذاءٌ فاضلٌ حافظٌ للصحة لا سِيَّما لمن اعتاد
الغِذَاءَ به، كأهل المدينة وغيرهم، وهو من أفضل الأغذية في البلاد الباردةِ
والحارةِ التى حرارتُها في الدرجة الثانية، وهو لهم أنفعُ منه لأهل البلاد
البارِدةِ، لبرودةِ بواطن سكانها، وحرارةِ بواطن سكان البلاد الباردة، ولذلك
يُكثِرُ أهلُ الحجاز واليمن والطائف، وما يليهم مِن البلاد المشابهةِ لها من
الأغذية الحارة ما لا يتَأتَّى لغيرهم، كالتَّمْر والعسل، وشاهدناهم يَضَعُون في
أطعمتهم من الفُلْفُل والزَّنْجبيل، فوقَ ما يضعه غيرُهم نحوَ عشرة أضعاف أو أكثر،
ويأكلون الزَّنْجبيل كما يأكل غيرُهم الحَلْوى، ولقد شاهدتُ من يَتَنَقَّل به منهم
كما يتنقل بالنُّقْلِ، ويوافقهم ذلك ولا يضرُّهم لبرودةِ أجوافهم، وخروج الحرارة
إلى ظاهر الجسد، كما تُشاهَدُ مياهُ الآبار تبرُدُ من الصيف، وتسخن في الشتاء،
وكذلك تُنضج المعدة من الأغذية الغليظة في الشتاء ما لا تُنضجه في الصيف.
وأما أهل المدينة، فالتَّمْر لهم يكاد أن يكونَ بمنزلة
الحِنطة لغيرهم، وهو قوتُهم ومادتُهم، وتمرُ العاليةِ مِن أجود أصناف تمرهم، فإنه
متينُ الجسم، لذيذُ الطعم، صادق الحلاوة، والتَّمْر يدخل في الأغذية والأدوية
والفاكهة، وهو يُوافق أكثر الأبدان، مقوٍّ للحار الغريزى، ولا يتولَّد عنه من
الفَضلات الرديئة ما يتولَّد عن غيره من الأغذية والفاكهة، بل يمنع لمن اعتاده مِن
تعفن الأخلاط وفسادِها.
وهذا الحديثُ من الخطاب الذي أُريد به الخاصُّ، كأهلِ
المدينة ومَن جاوَرَهم، ولا ريبَ أنَّ للأمكنة اختصاصا ينفع كثير من الأدوية في
ذلك المكان دونَ غيره، فيكون الدواء الذي قد ينبت في هذا المكان نافعا من الداء،
ولا يوجد فيه ذلك النفعُ إذا نبت في مكان غيره لتأثير نفس التُّربة أو الهواء، أو هما
جميعا، فإنَّ للأرض خواص وطبائع يُقارب اختلافُها اختلافَ طبائع الإنسان، وكثيرٌ
من النبات يكون في بعض البلاد غذاءً مأكولا، وفى بعضها سُمّا قاتلا، ورُبَّ أدويةٍ
لقوم أغذية لآخرين، وأدوية لقوم من أمراض هي أدويةٌ لآخرينَ في أمراض سواها؛
وأدوية لأهل بلدٍ لا تُناسب غيرهم، ولا تنفعهم.
وأمَّا خاصية السَّبْعِ، فإنها قد وقعت قدْرا وشرعا،
فخلق الله عَزَّ وَجَلَّ السَّمواتِ سبعا، والأرضَينَ سبعا، والأيام سبعا،
والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار، وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعا، والسعى
بين الصفا والمروة سبعا، ورمىَ الجمارِ سبعا سبعا، وتكبيراتِ العيدين سبعا في الأولى.
وقال ﷺ: «مُرُوهم بالصَّلاةِ لسَبْعٍ»، «وَإِذَا صَارَ للغُلامِ سَبْعُ سِنِينَ
خُيِّرَ بين أبويه» في رواية.
وفي رواية أخرى: «أبُوه أحقُّ به من أُمِّهِ»، وفى
ثالثة: «أُمُّهُ أحَقُّ به» وأمر النبي ﷺ في مرضه أن يُصَبَّ عليه من سبعِ قِرَبٍ،
وسَخَّر الله الريحَ على قوم عادٍ سبع ليال، وَدَعَا النبي ﷺ أن يُعينَه اللهُ على
قومه بسبعٍ كسبعِ يوسف، ومَثَّلَ اللهُ سبحانه ما يُضاعِفُ به صَدَقَةَ المتصدِّقِ
بِحَبَّةٍ أنبتت سبعَ سنابل في كلِّ سُنبلة مائة حَبَّةٍ، وَالسَّنابل التى رآها
صاحبُ يوسفَ سبعا، والسنين التى زرعوها دأْبا سبعا، وتُضاعَفُ الصدقة إلى سبعمائة ضِعف
إلى أضعاف كثيرة، ويدخل الجنَّة من هذه الأُمَّة بغير حساب سبعون ألفا.
فلا ريب أنَّ لهذا العدد خاصيَّة ليست لغيره، والسبعة
جمعت معانىَ العدد كله وخواصه، فإن العددَ شَفْعٌ ووَتْرٌ. والشَفْع: أول وثان. والوَتْر: كذلك،
فهذه أربع مراتب: شفع أول، وثان. ووتر أول، وثان، ولا تجتمع هذه المراتبُ في أقلِّ
مِن سبعة، وهى عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة، أعنى الشَفْع والوَتْر،
والأوائل والثوانى، ونعنى بالوَتْر الأول، الثلاثة، وبالثاني الخمسة؛ وبالشَفْع
الأول الاثنين، وبالثاني الأربعة، وللأطباء اعتناءٌ عظيم بالسبعة، ولا سِيَّما في
البحارين. وقد قال بقراط: كل شيء في هذا العالَم فهو مقدَّر على سبعة أجزاء، والنجوم
سبعة، والأيام سبعة، وأسنان الناس سبعة، أولها طفل إلى سبع، ثم صبى إلى أربع عشرة،
ثم مُراهِقٌ، ثم شابٌ، ثم كهلٌ، ثم شيخٌ، ثم هَرِمٌ إلى منتهى العمر، والله تعالى
أعلم بحكمته وشرعه، وقدره في تخصيص هذا العدد، هل هو لهذا المعنى أو لغيره؟
ونفع هذا العدد مِن هذا التَّمْر من هذا البلد من هذه
البقعة بعينها من السُّم والسِّحر، بحيث تمنع إصابته، من الخواصِّ التى لو قالها بقراط
وجالينوس وغيرهما من الأطباء، لتلقَّاها عنهم الأطباءُ بالقبول والإذعان
والانقياد، مع أنَّ القائل إنما معه الحَدْسُ والتخمين والظنُّ، فمَن كلامُه كلُّه
يقينٌ، وقطعٌ وبرهانٌ ووحىٌ، أولى أن تُتلقى أقوالُه بالقبول والتسليم، وترك
الاعتراض. وأدوية السُّموم تارة تكون بالكيفية، وتارة تكون بالخاصية كخواص كثير من
الأحجار والجواهر واليواقيت.. والله أعلم.
فصل ويجوز نفعُ التَّمْر المذكور في بعض السموم، فيكونُ
الحديثُ مِن العام المخصوص، ويجوز نفعُه لخاصية تلك البلد، وتلك التُّرْبة الخاصة من
كل سُمٍّ، ولكن ههنا أمر لا بد من بيانه، وهو أنَّ مِن شرط انتفاع العليل بالدواء
قبولَه، واعتقاد النفعُ به؛ فتقبله الطبيعة، فتستعين به على دفع العِلَّة، حتى
إنَّ كثيرا من المعالجات ينفع بالاعتقاد، وحُسْن القبول، وكمال التلقِّى، وقد شاهد
الناس من ذلك عجائب، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولُها له، وتفرحُ النفس به، فتنتعشُ
القُوَّة، ويقوى سلطانُ الطبيعة، وينبعثُ الحار الغريزى، فيُساعد على دفع المؤذى،
وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعا لتلك العِلَّة، فيقطعُ عملَه سوءُ اعتقاد
العليل فيه، وعدمُ أخذ الطبيعة له بالقبول، فلا يجدى عليها شيئا. واعتبرْ هذا بأعظم
الأدوية والأشفية، وأنفعِها للقلوب والأبدان، والمعاش والمعاد، والدنيا والآخرة،
وهو القرآن الذي هو شفاءٌ مِن كل داء، كيف لا ينفع القلوب التى لا تعتقد فيه
الشفاء والنفع، بل لا يزيدها إلا مرضا إلى مرضها، وليس لِشفاء القلوب دواءٌ قَطُّ
أنفعَ مِن القرآن، فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يُغادر فيها سقما إلا أبرأه،
ويحفظ عليها صحتها المطلقة، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذٍ ومُضرٍ، ومع هذا
فإعراضُ أكثرِ القلوب عنه، وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك، وعدمُ
استعماله، والعدول عنه إلى الأدوية التى ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء
به، وغلبت العوائدُ، واشتد الإعراض، وتمكنت العللُ والأدواءُ المزمنة من القلوب، وتربَّى
المرضى والأطباء على علاج بنى جنسهم وما وضعه لهم شيوخُهم، ومَنْ يُعظمونه
ويُحسنون به ظنونهم، فعظم المصابُ، واستحكم الداءُ، وتركَّبت أمراضٌ وعللٌ أعيَا
عليهم علاجها، وكلمَّا عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقَمَ أمرها، وقويت،
ولسانُ الحال يُنادى عليهم:
ومِنَ العَجائِبِ والعَجائِبُ جَمَّةٌ قُرْبُ الشِّفَاءِ
وما إليهِ وصولُ
كَالْعِيسِ في الْبيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّما والماءُ
فوق ظُهُورِهَا مَحْمولُ
فى هديه ﷺ في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما
يدفع ضررها ويقوي نفعها
ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن جعفر، قال: «رأيتُ
رسولَ الله ﷺ يأكل الرُّطَبَ بالقِثَّاء».
والرُّطب:
حارٌ رَطْبٌ في الثانية، يُقَوِّى المَعِدَة الباردة،
ويُوافقها، ويزيد في الباه، ولكنه سريعُ التعفُّن، معطِّش مُعَكِّر للدم، مُصَدِّع
مُوَلِّد للسُّدد، ووجع المثانة، ومُضِرٌ بالأسنان، والقثاء بارد رطب في الثانية، مسكن
للعطش، منعِش للقُوَى بشمه لما فيه من العطرية، مُطفىءُ لحرارة المَعِدَة
الملتهبة، وإذا جُفِّف بزره، ودُقَّ واستُحْلِبَ بالماء، وشُرِب، سكَّن العطش،
وأدرَّ البول، ونفع من وجع المثانة. وإذا دُقَّ ونُخِل، ودُلك به الأسنان، جلاها،
وإذا دُقَّ ورقُه وعُمِل منه ضماد مع المَيْبَخْتَج، نفع من عضة الكلب الكَلِب.
وبالجملة: فهذا حار، وهذا بارد، وفى كل منهما صلاحُ
الآخر، وإزالة لأكثر ضرره، ومقاومة كل كيفية بضدها، ودفع سَوْرتِها بالأُخرى، وهذا
أصل العلاج كله، وهو أصل في حفظ الصحة، بل علم الطب كله يُستفاد من هذا. وفى
استعمال ذلك وأمثالِهِ في الأغذية والأدوية إصلاحٌ لها وتعديلٌ، ودفعٌ لما فيها من
الكيفيات المُضِرَّة لما يُقابلها، وفى ذلك عَوْنٌ على صحة البدن، وقُوَّته
وخِصبِه، قالت عائشة رضي الله عنها: سَمَّنونى بكلِّ شيء، فلم أسَمْن، فسَمَّنونى بالقِثَّاء
والرُّطَب، فسمنت.
وبالجملة: فدفعُ ضررِ البارد بالحار، والحار بالبارد،
والرَّطبِ باليابس، واليابس بالرَّطب، وتعديلُ أحدِهما بالآخر من أبلغ أنواع
العلاجات، وحفظ الصحة. ونظيرُ هذا ما تقدَّم من أمره بالسَّنا والسَّنُوت، وهو
العسل الذي فيه شيء من السمن يصلحُ به السَّنَا، ويُعدله، فصلوات الله وسلامه على
مَن بُعث بعمارة القلوب والأبدان، وبمصالح الدنيا والآخرة.
فصل في هديه ﷺ في الحمية
الدواء كله شيئان: حِميةٌ وحفظ صحة. فإذا وقع التخليطُ،
احتِيجَ إلى الاستفراغ الموافق، وكذلك مدارُ الطب كله على هذه القواعد الثلاثة.
والحِمية حِميتان: حِمية عمَّا يجلِبُ المرض، وحِمية عما
يزيده، فيقف على حاله، فالأولى: حِمية الأصحاءِ. والثانية: حِمية المرضى. فإنَّ
المريض إذا احتمى، وقف مرضُه عن التزايد، وأخذت القُوَى في دفعه. والأصل في
الحِمية قوله تعالى: {وَإن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُواْ
صَعِيدا طَيِّبا} [18]، فَحَمَى المريضَ من استعمال الماء،
لأنه يضرُّه.
وفي سنن ابن ماجه وغيره، عن أُمِّ المنذِر بنت قيس
الأنصارية، قالت: دَخَلَ علىَّ رسول الله ﷺ ومعه علىّ، وعلىٌ ناقِهٌ من مرض، ولنا
دوالى مُعلَّقة، فقام رسولُ الله ﷺ يأكل منها، وقام علىٌّ يأكل منها، فطفِقَ رسولُ
الله ﷺ يقول لعلىٍّ: «إنك ناقِةٌ» حَتَّى كفَّ. قالت: وصنعت شعيرا وسِلْقا، فجئت به،
فقال النبي ﷺ لعلىٍّ: «مِنْ هذا أَصِبْ، فإنه أنفعُ لَكَ»، وفى لفظ فقال: «مِنْ
هذا فَأصِبْ، فإنه أوفَقُ لَكَ».
وفي سنن ابن ماجه أيضا عن صُهَيْبٍ، قال: قدمِتُ على
النبي ﷺ وبين يديه خبزٌ وتمرٌ، فقال: «ادْنُ فَكُلْ»، فأخذتُ تمرا فأكلتُ، فقال:
«أتأكُلُ تمرا وبِكَ رَمَدٌ»؟ فقلت: يا رسول الله؛ أمضُغُ مِنَ الناحية الأخرى،
فتبسَّم رسول الله ﷺ.
وفي حديث محفوظ عنه ﷺ: «إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدا، حماه
مِنَ الدُّنيا، كما يَحْمِى أحَدُكُم مريضَه عَنِ الطَّعَامِ والشَّرابِ».
وفى لفظ: «إنَّ اللهَ يَحْمِى عَبْدَه المؤمِنَ مِنَ الدُّنيا».
وأما الحديثُ الدائرُ على ألسنةِ كثير من الناس:
«الحِميةُ رأسُ الدواءِ، والمَعِدَةُ بيتُ الداءِ، وعوِّدُوا كلَّ جسم ما اعتاد»
فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث ابن كلَدَةَ طبيب العرب، ولا يصحُّ رفعُه إلى
النبي ﷺ، قاله غيرُ واحد من أئمة الحديث. ويُذكر عن النبي ﷺ: «أنَّ المَعِدَةَ
حوضُ البدن، والعُروق إليها واردةٌ، فإذا صحَّت المَعِدَةُ صدرت العروقُ بالصحة، وإذا
سَقِمَتِ المَعِدَةُ، صدرت العروقُ بالسقم».
وقال الحارث: رأسُ الطِّبِّ الحِمية، والحِمية عندهم
للصحيح في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والنَّاقِه، وأنفعُ ما تكون الحِمية
للنَّاقهِ من المرض، فإنَّ طبيعته لم ترجع بعدُ إلى قُوَّتها، والقوة الهاضمة
ضعيفة، والطبيعة قابلة، والأعضاء مستعدة، فتخليطُه يُوجب انتكاسَها، وهو أصعب من
ابتداءِ مرضه.
واعلم أنَّ في منع النبي ﷺ لعلىٍّ من الأكل من
الدَّوالى، وهو ناقِهٌ أحسنَ التدبير، فإنَّ الدَّوالىَ أَقْنَاءٌ من الرُّطَبُ
تعُلَّقُ في البيت للأكل بمنزلة عناقيدِ العِنَب، والفاكهةُ تضرُّ بالناقِه من
المرض لسُرعة استحالتها، وضعف الطبيعة عن دفعها، فإنها لم تتمكن بعد من قُوَّتها،
وهى مشغولةٌ بدفع آثار العِلَّة، وإزالتها مِن البدن.
وفي الرُّطَبِ خاصةً نوع ثقلٍ على المَعِدَة، فتشتغل
بمعالجتِه وإصلاحه عما هي بصدده من إزالة بقية المرض وآثاره، فإما أن تقف تلك
البقية، وإما أن تتزايدَ، فلمَّا وُضع بين يديه السِّلْقُ والشعيرُ، أمره أن يُصيب
منه، فإنه من أنفع الأغذية للناقِه، فإنَّ في ماء الشعير من التبريد والتغذية،
والتلطيفِ والتليين، وتقويةِ الطبيعة ما هو أصلَح للناقِه، ولا سِيَّما إذا طُبِخَ
بأُصول السَّلق، فهذا مِن أوفق الغذاء لمن في مَعِدَتِهِ ضعفٌ، ولا يتولَّد عنه من
الأخلاط ما يُخاف منه.
وقال زيدُ بن أسلم: حَمَى عُمَرُ رضي الله عنه مريضا له،
حتى إنه من شدة ما حماه كان يَمَصُّ النَّوَى.
وبالجملة: فالحِمية من أنفع الأدوية قبل الداء، فتمنع
حصولَه، وإذا حصل، فتمنع تزايدَه وانتشارَه.
فصل ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ كثيرا مما يُحمى عنه
العليلُ والناقِه والصحيحُ، إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول
منه الشيء اليسيرَ الذي لا تَعْجِزُ الطبيعةُ عن هضمه، لم يضرَّه تناوُله، بل ربما
انتفع به، فإنَّ الطبيعة والمَعِدَة تتلقيانه بالقبول والمحبَّة، فيُصلحان ما
يُخشى مِن ضرره، وقد يكون أنفعَ مِن تناول ما تكرهه الطبيعةُ، وتدفعهُ من الدواء، ولهذا
أقرَّ النبي ﷺ صُهَيْبا وهو أرمدُ على تناولِ التَّمَرَاتِ اليسيرة، وعلم أنها لا
تَضُرُّه.
ومن هذا ما يُروى عن علىٍّ أنه دخل عَلى رسولِ الله ﷺ
وهو أرمَدُ، وبَيْنَ يَدَىْ النبي ﷺ تمرٌ يأكلُه، فقال: «يا علىُّ؛ تشتهِيهِ»؟
وَرَمَى إليه بتمرة، ثم بأُخرى حَتَّى رَمَى إليه سَبْعا، ثم قال: «حَسْبُكَ يا
علىٌ».
ومن هذا ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث عِكْرِمَةَ،
عن ابن عباس، أنَّ النبي ﷺ عادَ رَجُلا، فقال له: «ما تَشتَهِى»؟ فقال: أشتَهِى
خُبْزَ بُرٍّ وفى لفظٍ: أشتَهِى كَعْكَا فقال النبي ﷺ: «مَن كانَ عندَهُ خُبزُ
بُرٍّ، فَليبعَثْ إلى أخيه»، ثم قال: «إذا اشتَهَى مريضُ أحدِكَم شيئا،
فَلْيُطْعِمْهُ».
ففي هذا الحديث سرٌ طبي لطيف، فإنَّ المريضَ إذا تناول
ما يشتهيه عن جُوع صادق طبيعي، وكان فيه ضررٌ ما، كان أنفعَ وأقلَّ ضررا مما لا
يشتهيه، وإن كان نافعا في نفسه، فإنَّ صِدْق شهوتِهِ، ومحَبَة الطبيعة يدفع ضررَه،
وبُغض الطبيعة وكراهتها للنافع، قد يَجْلِبُ لها منه ضررا.
وبالجملة: فاللذيذُ المشتَهَى تُقبِلُ الطبيعةُ عليه
بعناية، فتهضِمُه على أحمَدِ الوجوه، سِيَّما عند انبعاثِ النفس إليه بصدْقِ
الشهوة، وصحةِ القوة.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة
والحمية مما يهيج الرمد
وقد تقدَّم أنَّ النبي ﷺ حَمَى صُهَيْبا من التَّمْر،
وأنكر عليه أكْلَه، وهو أرمدُ، وَحَمَى عليا من الرُّطَبِ لمَّا أصابه الرَّمدُ.
وذكر أبو نُعَيْم في كتاب «الطب النبوي»: أنه ﷺ «كان إذا
رَمِدَتْ عينُ امرأةٍ من نسائه لم يأتِهَا حَتَّى تَبرَأَ عينُها».
الرَّمدُ:
ورمٌ حار يَعرِضُ في الطبقة الملتحمة من العَيْن، وهو
بياضُها الظاهر، وسببُه انصبابُ أحد الأخلاط الأربعة، أو ريحٌ حارة تكثُر كميتها
في الرأس والبدن، فينبعِثُ منها قِسطٌ إلى جَوْهر العَيْن، أو ضربةٌ تُصيب
العَيْن، فتُرسل الطبيعةُ إليها مِن الدَّم والروح مقدارا كثيرا، تَرُومُ بذلك شفاءَها
مما عَرَضَ لها، ولأجل ذلك يَرِمُ العضو المضروب، والقياسُ يوجب ضده.
واعلم أنه كما يرتفعُ من الأرض إلى الجو بُخاران،
أحدهما: حار يابس، والأخرُ: حارٌ رَطب، فينعقدان سحابا متراكما، ويمنعان أبصارَنا
مِن إدراك السماء، فكذلك يرتفعُ من قعر المَعِدَة إلى منتهاها مِثلُ ذلك، فيمنعانِ
النظرَ، ويتولَّد عنهما عِلَلٌ شَتَّى، فإن قويت الطبيعةُ على ذلك ودفعته إلى
الخياشيم، أحدث الزُّكامَ، وإن دفعته إلى اللَّهاة والمَنْخِرَين، أحدث الخُناقَ،
وإن دفعتْه إلى الجَنْبِ، أحدث الشَّوْصةَ، وإن دفعتْه إلى الصدر، أحدث النَّزلةَ،
وإن انحدر إلى القلب، أحدث الخَبْطَةَ، وإن دفعته إلى العَيْن، أحدث رمدا، وإن
انحدر إلى الجوف، أحدث السَّيَلانَ، وإن دفعته إلى منازل الدِّماغ، أحدث
النِّسيانَ، وإن ترطبت أوعيةُ الدماغ منه وامتلأت به عروقُه، أحدث النومَ الشديد،
ولذلك كان النوم رَطبا، والسهرُ يابسا. وإن طلب البخارُ النفوذَ من الرأس، فلم
يقدِرْ عليه، أعقبه الصُّداع والسهر، وإن مال البخار إلى أحد شِقَّى الرأس، أعقبه الشقيقة،
وإن ملك قِمَّةَ الرأس ووسَطَ الهامة، أعقبه داءُ البَيْضة، وإن برد منه حِجابُ
الدماغ أو سخن أو ترطَّب وهاجتْ منه أرياحٌ، أحدث العُطاسَ، وإن أهاج الرطوبة
البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزى، أحدث الإغماءَ والسُّكاتَ، وإن أهاج
المِرَّةَ السوداءَ حتى أظلم هواءُ الدماغ، أحدث الوسواس، وإن فاض ذلك إلى مجارى
العَصَب، أحدث الصَّرْع الطبيعي، وإن ترطبت مجامعُ عصب الرأس وفاض ذلك في مجاريه،
أعقبه الفالِج، وإن كان البُخار من مِرَّةٍ صفراءَ ملتهبة محمية للدماغ، أحدث البِرْسامَ،
فإن شَرَكه الصدرُ في ذلك، كان سرساما، فافهم هذا الفصلَ.
والمقصودُ: أنَّ أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هائجة
في حالِ الرَّمَد، والجِماعُ مما يَزيد حركتَها وثَوَرانَها، فإنَّه حركةٌ كلية
للبدن والروح والطبيعة. فأمَّا البدن، فيسخُنُ بالحركة لا محالة، والنفس تشتدُّ
حركتها طلبا للذة واستكمالها، والروحُ تتحرك تبعا لحركة النفس والبدن، فإنَّ أول
تعلق الروح من البدن بالقلب، ومنه ينشأ الروحُ، وتَنبثُّ في الأعضاء. وأما حركةُ
الطبيعة، فلأجل أن تُرسِلَ ما يجب إرسالُه مِن المَنِىِّ على المقدار الذي يجبُ
إرسالُه.
وبالجملة:
فالجِماعُ حركة كلية عامة يتحرَّك فيها البدن وقُواه،
وطبيعته وأخلاطه، والروحُ والنفس، فكلُ حركة فهى مثيرة للأخلاط مرققةٌ لها تُوجب
دفعَها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة، والعَيْنُ في حال رمدها أضعفُ ما تكون، فأضرُّ
ما عليها حركةُ الجِمَاع.
قال بقراط في كتاب «الفصول»: وقد يَدُلُّ ركوبُ السفُن
أنَّ الحركة تُثَوِّرُ الأبدان. هذا مع أنَّ في الرَّمد منافعَ كثيرة، منها ما
يستدعيه مِن الحِمية والاستفراغ، وتنقيةِ الرأس والبدن من فضلاتهما وعُفوناتهما،
والكفِّ عما يُؤذى النفس والبدن من الغضب، والهم والحزن، والحركاتِ العنيفة،
والأعمال الشاقة. وفى أثر سَلَفىٍّ: لا تَكرهوا الرَّمدَ، فإنه يقطع عروق العَمَى.
ومن أسباب علاجه ملازمةُ السكون والراحة، وتركُ مس
العَيْن والاشتغال بها، فإنَّ أضداد ذلك يُوجب انصبابَ المواد إليها. وقد قال بعضُ
السَّلَف: مَثلُ أصْحَابِ مُحَمَّدٍ مَثَلُ العَيْن، ودَوَاءُ العَيْنِ تَرْكُ
مَسِّها. وقد رُوى في حديث مرفوع، الله أعلم به: «علاجُ الرَّمد تَقطيرُ الماءِ
الباردِ في العَيْن» وهو من أنفع الأدوية للرَّمد الحار، فإنَّ الماء دواء بارد يُستعان
به على إطفاء حرارةِ الرَّمد إذا كان حارا، ولهذا قال عبدُ الله بن مسعود رضي الله
عنه، لامرأتِه زينبَ وقد اشتَكتْ عينُها: لو فَعلتِ كما فَعَلَ رسول الله ﷺ كان
خيرا لكِ وأجدَرَ أن تُشْفى، تَنْضَحِينَ في عينِكِ الماءَ، ثم تقولينَ: «أَذهِبْ
البأْسَ ربَّ النَّاس، واشْفِ أنتَ الشَّافِى، لا شِفاءَ إلا شِفَاؤك، شِفاءً لا
يُغادِرُ سَقَما». وهذا مما تقدَّم مرارا أنه خاصٌ ببعض البلاد، وبعضِ أوجاع
العَيْن، فلا يُجعل كلامُ النبوَّة الجزئىُّ الخاص كُليا عاما، ولا الكُلىُّ العام
جزئيا خاصا، فيقعَ من الخطإ، وخلاف الصواب ما يقعُ.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج الخدران الكُلِّي الذي يجمد معه
البدن
ذكر أبو عُبَيْدٍ في «غريب الحديث» من حديث أبى عثمانَ
النَّهْدِىِّ: أنَّ قوما مرُّوا بشجرةٍ فأكلُوا منها، فكأنما مرَّتْ بهم ريحٌ،
فأجمدتْهُم، فقال النبي ﷺ: «قَرِّسُوا الماءَ في الشِّنَانِ، وصُبُّوا عليهم فيما
بين الأذانَيْن»، ثم قال أبو عُبَيْد: «قَرِّسُوا»: يعنى بَرِّدوا. وقولُ الناس:
قد قَرَسَ البردُ، إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد. والشِّنان: الأسقِيةُ
والقِرَبُ الخُلقانُ: يُقال للسِّقاء: شَنٌ، وللقِربة: شَنَّة. وإنما ذكر
الشِّنانَ دون الجُدُدِ لأنها أشدُّ تبريدا للماء. وقوله: «بين الأذَانَين»، يعنى:
أذانَ الفجر والإقامة، فسمى الإقامة أذانا.. انتهى كلامه.
قال بعضُ الأطباء: وهذا العلاجُ مِن النبي ﷺ من أفضلِ
علاج هذا الداء إذا كان وقوعُه بالحجاز، وهى بلاد حارة يابسةٌ، والحارُ الغريزىُّ ضَعيف
في بواطن سكانها، وصبُّ الماء البارد عليهم في الوقت المذكور وهو أبردُ أوقاتِ
اليوم يوجبُ جَمْعَ الحار الغريزى المنتشر في البدن الحامل لجميع قُواه، فيقوى
القوة الدافعة، ويجتمعُ من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محلُّ ذاك الداء،
ويستظهر بباقى القُوَى على دفع المرض المذكور، فيدفعه بإذن الله عَزَّ وجَلَّ،
ولو أن بقراط أو جالينوس أو غيرَهما، وصف هذا الدواء
لهذا الداء لخَضَعَتْ له الأطباءُ وعَجِبُوا من كمال معرفته.
فصل في هديه ﷺ في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب
وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها
فى الصحيحين من حديث أبى هُريرة، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال:
«إذا وقَعَ الُّذَبابُ في إناءِ أحَدِكُم، فامْقُلُوه، فإنَّ في أحد جنَاحيهِ
داءً، وفى الآخرِ شِفَاءً».
وفي سنن ابن ماجه عنِ أبى سعيد الخُدْرىِّ، أنَّ رسول
الله ﷺ قال: «أحَدُ جَناحَى الذُّبابِ سَمٌ، والآخَرُ شِفَاءٌ، فإذا وَقَعَ في
الطَّعَام، فامْقُلُوه، فإنه يُقَدِّمُ السُّمَّ، ويُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ».
هذا الحديث فيه أمران: أمرٌ فقهي، وأمرٌ طبي
فأما الفقهي.. فهو دليلٌ ظاهر الدلالةِ جدًا على أنَّ
الذُّباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا يُنجِّسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا
يُعرف في السَّلَف مخالفٌ في ذلك. ووَجهُ الاستدلال به أنَّ النبي ﷺ أمر
بمَقْلِهِ، وهو غمسُه في الطعام، ومعلومٌ أنه يموت من ذلك، ولا سِيَّما إذا كان
الطعامُ حارا. فلو كان يُنجسه لكان أمرا بإفساد الطعام، وهو ﷺ إنما أمر بإصلاحه،
ثم عُدِّىَ هذا الحكمُ إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزُّنْبُور، والعنكبوت،
وأشباهِ ذلك. إذ الحكمُ يَعُمُّ بعُموم عِلَّتِه، وينتفى لانتفاء سببه، فلما كان
سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له
سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاءِ عِلّته.
ثم قال مَن لم يحكم بنجاسة عظم الميتةِ: إذا كان هذا
ثابتا في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرُّطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته
في العظم الذي هو أبعدُ عن الرُّطوبات والفضلات، واحتقان الدم أولى، وهذا في غاية القوة،
فالمصيرُ إليه أولى.
وأول مَن حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلَّم بهذه اللَّفظة،
فقال: ما لا نفسَ له سائلة؛ إبراهيم النخَعىُّ وعنه تلقاها الفقهاءُ والنفس في
اللُّغة: يُعَبَّر بها عن الدم، ومنه نَفَست المرأة بفتح النون إذا حاضت، ونُفِست
بضمها إذا ولدت.
وأما المعنى الطبي، فقال أبو عُبَيْد: معنى «امْقُلُوه»:
اغمسوه ليخرج الشفاء منه، كما خرج الداءُ، يقال للرجلين: هما يَتمَاقلان، إذا
تغاطَّا في الماء.
واعلم أنَّ في الذُّباب عندهم قُوَّةً سُمِّيَّةً يدل
عليها الورم، والحِكَّة العارِضة عن لسعِه، وهى بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما
يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبي ﷺ أن يُقابلَ تلك السُّمية بما أودعه الله سبحانه
في جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمسَ كُلُّه في الماء والطعام، فيقابل المادةَ
السُّمية المادة النافعة، فيزول ضررُها. وهذا طِبٌ لا يهتدى إليه كبار الأطباء
وأئمتهم، بل هو خارجٌ من مِشكاة النُبوَّة، ومع هذا فالطبيب العالِم العارِف
الموفَّق يخضع لهذا العلاج، ويُقِرُّ لمن جاء به بأنه أكملُ الخلق على الإطلاق،
وأنه مُؤَيَّد بوحى إلهى خارج عن القُوَى البَشَرية.
وقد ذكر غيرُ واحد من الأطباء أن لسع الزُّنبور والعقرب
إذا دُلِكَ موضعه بالذُّباب نفع منه نفعا بيِّنا، وسكَّنه، وما ذاك إلا للمادة
التى فيه من الشفاء، وإذا دُلِكَ به الورمُ الذي يخرج في شعر العَيْن المسمَّى
شَعْرَة بعد قطع رؤوس الذُّباب، أبرأه.
فصل في هديه ﷺ في علاج البثرة
ذكر ابن السُّنى في كتابه عن بعض أزواج النبي ﷺ، قالت:
دخل علىَّ رسولُ الله ﷺ وقد خرج في أصبعى بَثْرَةٌ، فقال: «عِنْدَكِ ذَرِيرةٌ»؟
قلت: نعم.
قال: «ضَعيها عليها»، وقُولى: «اللَّهُمَّ مُصَغِّرَ
الكَبِيرِ، ومُكبِّرَ الصَغِيرِ، صَغِّرْ مَا بِى».
الذَّرِيرةُ:
دواء هندى يُتخذ من قَصب الذَّريرة، وهى حارة يابسة
تنفعُ مِن أورام المَعِدَة والكَبِدِ والاستسقاء، وتُقوِّى القلب لطيبها،
وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت: طيَّبْتُ رسولَ الله ﷺ
بيَدِى بذَرِيرةٍ في حَجَّةِ الوَداع للحِلِّ والإحْرَامِ.
والبَثْرَة:
خُراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة، فتسترقُّ
مكانا من الجسد تخرج منه، فهى محتاجة إلى ما يُنضجها ويُخرجها، والذَّريرةُ أحدُ
ما يفعل بها ذلك، فإنَّ فيها إنضاجا وإخراجا مع طِيب رائحتها، مع أنَّ فيها تبريدا
للنارية التى في تلك المادة، ولذلك قال صاحب القانون: إنه لا أفضل لحرق النار من
الذَّرِيرة بدُهنِ الوردِ والخل.
فصل [في هديه ﷺ في علاج الأورام والخراجات التى تبرأ
بالبط والبزل]
يُذكر عن علىٍّ أنه قال: دخلتُ مع رسول الله ﷺ على رجل
يعودُه بظهره ورمٌ، فقالوا: يا رسول الله؛ بهذه مِدَّةٌ. قال: «بُطُّوا عنه»، قال
علىُّ: فما بَرِحتُ حتى بُطَّتْ، والنبي ﷺ شاهدٌ.
ويُذكر عن أبى هريرة: أنَّ النبي ﷺ أمر طبيبا أن يَبُطَّ
بطن رجل أجْوَى البطن، فقيل: يا رسول الله؛ هل ينفع الطّبُّ؟ قال: «الذي أنْزَلَ
الداء، أنزل الشِّفَاء، فِيمَا شاء».
الورم:
مادة في حجم العضو لفضل مادة غيرِ طبيعية تنصبُّ إليه،
ويُوجد في أجناس الأمراض كُلِّها، والموادُ التى تكون عنها من الأخلاط الأربعة،
والمائية، والريح، وإذا اجتمع الورمُ سُمى خُرَاجا، وكلُّ ورم حار يؤول أمره إلى
أحد ثلاثة أشياء: إما تحلل، وإما جمع مِدَّة، وإما استحالةٍ إلى الصَّلابة. فإن كانت
القوة قوية، استولت على مادة الورم وحلَّلته، وهى أصلحُ الحالات التى يؤول حالُ
الورم إليها، وإن كانت دون ذلك، أنضجت المادة، وأحالتها مِدَّةً بيضاءَ، وفتحت لها
مكانا أسالتها منه. وإن نقصَت عن ذلك أحالت المادة مِدَّةً غير مستحكمة النُّضج،
وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعُها منه، فيُخاف على العضو الفساد بطُول لبثها
فيه، فيحتاجُ حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبَطِّ، أو غيره لإخراج تلك المادة الرديئة
المفسدة للعضو.
وفي البَطِّ فائدتان؛ إحداهما: إخراج المادة الرديئة
المفسدة.
والثانية: منع اجتماع مادة أُخرى إليها تقوِّيها.
وأما قوله في الحديث الثاني: «إنه أمر طبيبا أن يَبُطَّ
بطن رجل أجْوَى البطن»، فالجَوى يُقال
على معانٍ منها: الماءُ المُنْتِنُ الذي يكون في البطن يحدُث عنه الاستسقاءُ.
وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة، فمنعته
طائفةٌ منهم لخطرِه، وبُعدِ السلامة معه، وجوَّزته طائفةٌ أُخرى، وقالت: لا علاج له
سواه، وهذا عندهم إنما هو في الاستسقاء الزِّقىِّ. فإنه كما تقدم ثلاثة أنواع:
طَبْلىّ: وهو الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضُربت عليه سُمع له صوتٌ كصوت
الطَّبل، ولحمىّ: وهو الذي يربُو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشُو مع الدم
في الأعضاء، وهو أصعبُ من الأول، وزِقِّىّ: وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل
مادةٌ رديئة يُسمع لها عند الحركة خَضخضةٌ كخضخضةِ الماء في الزِّق، وهو أردأ
أنواعه عند الأكثرين من الأطباء. وقالت طائفة: أردأ أنواعه «اللَّحْمىُّ» لعموم
الآفة به.
ومن جملة علاج الزِّقى إخراج ذلك بالبَزْل، ويكون ذلك
بمنزلة فصد العروق لإخراج الدم الفاسد، لكنه خطِرٌ كما تقدَّم، وإن ثبت هذا
الحديث، فهو دليلٌ على جواز بزله.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من
الأغذية
فى الصحيحين من حديثِ عُرْوةَ، عن عائشةَ: أنها كانتْ
إذا ماتَ الميتُ من أهلِها، واجتمع لذلك النساءُ، ثم تفرَّقْنَ إلى أهلهن، أمرتْ
ببُرْمَةٍ من تَلْبينةٍ فطُبِخَتْ، وصنعت ثريدا، ثم صبَّت التلبينةُ عليه، ثم قالت: كُلوا منها، فإنى
سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «التَّلْبِينَةُ مَجمَّةٌ لفؤادِ المريضِ تَذهبُ ببعضِ
الحُزْن».
وفي السنن من حديث عائشة أيضا، قالت: قال رسولُ الله
ﷺ: «عليكُمْ بالبَغيضِ النَّافع التَّلْبِينِ»، قالت: وكان رسولُ الله ﷺ إذا
اشتكَى أحدٌ من أهله لم تَزلْ البُرْمةُ على النارِ حتى ينتهىَ أحدُ طرَفَيْهِ.
يَعنى يَبْرَأ أو يموت.
وعنها: كان رسولُ الله ﷺ إذا قيل له: إنَّ فلانَا وَجِعٌ
لا يطْعَمُ الطَّعَامَ، قال: «عَلَيْكُم بالتَّلْبِينَةِ فحُسُّوه إيَّاها»،
ويقول: «والذي نفْسى بيدِه إنَّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أحدِكُم كما تَغسِلُ إحداكُنَّ
وجهَها مِنَ الوَسَخ».
التَّلْبين:
هو الحِسَاءُ الرقيقُ الذي هو في قِوَام اللَّبن، ومنه
اشتُق اسمُه، قال الهَرَوىُّ: سميت تَلبينةً لشبهها باللَّبن لبياضِها ورقتِها،
وهذا الغِذَاءُ هو النافع للعليل، وهو الرقيقُ النضيج لا الغليظ النِّىءُ، وإذا شئتَ
أن تعرِفَ فضل التَّلْبينَةِ، فاعرفْ فضل ماء الشعير، بل هي ماءُ الشعير لهم،
فإنها حِساء متَّخذ من دقيق الشعير بنُخالته، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه
يُطبخ صِحاحا، والتَّلبينَة تُطبخ منه مطحونا، وهى أنفع منه لخروج خاصيَّةِ الشعير
بالطحن، وقد تقدَّم أنَّ للعاداتِ تأثيرا في الانتفاع بالأدوية والأغذية، وكانت
عادةُ القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا لا صِحاحا، وهو أكثرُ تغذيةً، وأقوى
فعلا، وأعظمُ جلاءً، وإنما اتخذه أطباءُ المدن منه صِحَاحا ليكونَ أرقَّ وألطفَ،
فلا يَثقُل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورَخاوتِها، وثِقلِ ماءِ
الشعير المطحون عليها. والمقصودُ: أنَّ ماء الشعير مطبوخا صِحاحا يَنفُذُ سريعا، ويَجلُو
جَلاءً ظاهرا، ويُغذى غِذاءً لطيفا. وإذا شُرِب حارا كان جلاؤه أقوى، ونفوذُه
أسرَع، وإنْماؤه للحرارة الغريزية أكثرَ، وتلميسُه لسطوح المَعِدَة أوفق.
وقوله ﷺ فيها: «مجمةٌ لفؤاد المريض»، يُروى بوجهين؛ بفتح
الميم والجيم، وبضم الميم، وكسر الجيم. والأول: أشهر. ومعناه: أنها مُريحةٌ له، أى:
تُريحهُ وتسكِّنُه من «الإِجْمام» وهو الراحة. وقولُه: «تُذهب ببعض
الحُزْن»، هذا والله أعلم لأن الغم والحزن يُبَرِّدان المزاجَ، ويُضعفان الحرارةَ
الغريزية لميلِ الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها، وهذا الحساءُ
يُقوِّى الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها، فتزيلُ أكثرَ ما عرض له من الغم
والحزن.
وقد يقال وهو أقرب: إنها تَذهبُ ببعض الحُزن بخاصيَّةٍ
فيها من جنس خواصِّ الأغذية المفرِحَة، فإنَّ من الأغذية ما يُفرِح بالخاصية..
والله أعلم.
وقد يُقال: إنَّ قُوى الحزين تَضعُفُ باستيلاء اليُبْس
على أعضائه، وعلى مَعِدته خاصةً لتقليل الغذاء، وهذا الحِسَاء يرطبها، ويقويها،
ويغذِّيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريضَ كثيرا ما يجتمع في مَعِدَته
خَلْطٌ مرارى، أو بَلْغَمِى، أو صَديدى، وهذا الحِسَاءُ يَجلُو ذلك عن المَعِدَة
ويَسْرُوه، ويَحْدُره، ويُميعُه، ويُعدِّل كيفيتَه، ويَكسِرُ سَوْرَته، فيُريحها
ولا سِيَّما لِمَن عادتُه الاغتذاءُ بخبز الشعير، وهى عادة أهل المدينة إذ ذاك، وكان
هو غالبَ قُوتِهم، وكانت الحِنطةُ عزيزة عندهم.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية
قلوبهم
روى ابن ماجه في سننه من حديث أبى سعيد الخُدرىّ، قال:
قال رسول الله ﷺ: «إذا دَخَلْتُم على المَرِيضِ، فَنَفِّسوا لَهُ في الأجَلِ،
فإنَّ ذَلِكَ لا يَرُدُّ شيئا، وَهُوَ يُطَيِّبُ نَفْسَ المريضِ».
وفي هذا الحديث نوعٌ شريفٌ جدا من أشرف أنواع العلاج،
وهو الإرشاد إلى ما يُطيِّبُ نفسَ العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة، وتنتعشُ
به القُوَّة، وينبعِثُ به الحارُّ الغريزى، فيتساعدُ على دفع العِلَّة أو تخفيفها
الذي هو غايةُ تأثير الطبيب.
وتفريح نفس المريض، وتطييبُ قلبه، وإدخالُ ما يسُرُّه
عليه، له تأثيرٌ عجيب في شفاء عِلَّته وخِفَّتها، فإنَّ الأرواح والقُوَى تقوى بذلك،
فتُسَاعِدُ الطبيعة على دفع المؤذى، وقد شاهد الناس سكثيرا من المرضى تنتعِشُ قواه
بعيادة مَن يُحبونه، ويُعظِّمونه، ورؤيتهم لهم، ولُطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم،
وهذا أحدُ فوائد عيادة المرضى التى تتعلق بهم، فإنَّ فيها أربعة أنواع من الفوائد:
نوعٌ يرجع إلى المريض، ونوعٌ يعود على العائد، ونوعٌ يعود على أهل المريض، ونوعٌ
يعود على العامة.
وقد تقدَّم في هديه ﷺ أنه كان يسأل المريض عن شكواه، وكيف
يجده ويسأله عما يشتهيه، ويضع يده على جَبْهته، وربما وضعها بين ثديَيْه، ويدعو
له، ويصف له ما ينفعه في عِلَّته، وربما توضَّأ وصَبَّ على المريضِ من وَضوئه،
وربما كان يقولُ للمريض: «لا بَأْس، طَهُورٌ إنْ شَاءَ الله»، وهذا من كمال
اللُّطف، وحُسن العلاج والتدبير.
فصلفى هديه ﷺ في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية
والأغذية دون ما لم تعتده
هذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العلاج، وأنفعُ شيء فيه، وإذا
أخطأه الطبيبُ، أضرَّ المريضَ من حيثُ يظن أنه ينفعه، ولا يَعْدِلُ عنه إلى ما
يجدهُ من الأدوية في كُتب الطب إلا طبيب جاهل، فإن ملاءمةَ الأدوية والأغذية
للأبدان بحسب استعدادها وقبولها، وهؤلاء أهل البوادى والأكارُون وغيرُهم لا ينجَعُ
فيهم شراب اللينوفر والوردِ الطري ولا المغلى، ولا يُؤثر في طباعهم شيئا، بل عامةُ
أدوية أهلِ الحَضَر وأهل الرَّفاهيةَ لا تجدى عليهم، والتجربة شاهدة بذلك،ومَن
تأمل ما ذكرناه من العلاج النبوي، رآه كُلَّه موافقا لعادةِ العليل وأرضه، وما نشأ
عليه. فهذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العلاج يجب الاعتناءُ به، وقد صرَّح به أفاضلُ أهل
الطب حتى قال طبيبُ العرب بل أطَبُّهم الحارثُ ابن كَلَدَةَ، وكان فيهم كأبقراط في
قومه: الحِميةُ رأس الدواء، والمَعِدةُ بيتُ الداء؛ وعوِّدُوا كُلَّ بدنٍ ما
اعْتَاد. وفى لفظ عنه: الأزْمُ دَوَاءٌ، والأزم: الإمساكُ عن الأكل يَعنى به
الجوع، وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائية كلِّها بحيثُ إنه أفضلُ في
علاجها من المستفرغات إذا لم يُخَفْ من كثرة الامتلاء، وهَيَجانِ الأخلاط، وحِدَّتها
وغليانها.
وقوله: «المَعِدَةُ بيتُ الداء». المَعِدَةُ: عضو عصبىٌ
مجوَّفٌ كالقَرْعَةِ في شكلها، مُركَّبٌ من ثلاث طبقات، مؤلَّفةٍ من شظايا دقيقةٍ
عصبية تُسمى اللِّيفَ، ويُحيط بها لحم، وليفُ إحدى الطبقات بالطول، والأُخرى
بالعَرْض، والثالثةِ بالوَرْب، وفمُ المَعِدَة أكثر عصبا، وقعرُها أكثر لحما، في
باطنها خَمْل، وهى محصورة في وسط البطن، وأميَلُ إلى الجانب الأيمن قليلا،
خُلِقَتْ على هذه الصفة لحكمةٍ لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه، وهى بيتُ الداء،
وكانت مَحَلا للهضم الأول، وفيها يَنضَجُ الغذاء وينحدِرُ منها بعد ذلك إلى
الكَبِد والأمعاء، ويتخلَّف منه فيها فضلاتٌ قد عجزت القوةُ الهاضمة عن تمام
هضمها، إما لكثرةِ الغذاء، أو لرداءته، أو لسوءِ ترتيبٍ في استعماله، أو لمجموع
ذلك، وهذه الأشياء بعضُها مما لا يتخلَّص الإنسان منه غالبا، فتكونُ المَعِدَة بيت
الداء لذلك، وكأنه يُشير بذلك إلى الحثِّ على تقليل الغذاء، ومنْعِ النفس مِن
اتِّباع الشهوات، والتحرُّزِ عن الفضلات.
وأما العادةُ.. فلأنها كالطبيعة للإنسان؛ ولذلك يُقال:
«العادةُ طبعٌ ثانٍ»، وهى قوةٌ عظيمة في البدن، حتى إن أمرا واحدا إذا قيس إلى
أبدان مختلفة العادات، كان مختلِف النسبة إليها. وإن كانت تلك الأبدانُ متفقةً في
الوجوه الأُخرى مثالُ ذلك أبدانٌ ثلاثة حارةُ المزاج في سن الشباب، أحدُها:
عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء الحارة، والثاني: عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء الباردة.
والثالث: عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء المتوسطة، فإن الأول متى تناول عسلا لم يضر به.
والثاني: متى تناوله، أضرَّ به. والثالث: يضرُّ به قليلا. فالعادةُ ركنٌ عظيم في
حفظ الصحة، ومعالجةِ الأمراض، ولذلك جاء العلاجُ النبوي بإجراء كل بدن على عادته
في استعمال الأغذية والأدوية وغيرِ ذلك.
فصل في هديه ﷺ في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود
ذكر عبد الرزَّاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن
كعب ابن مالك: أنَّ امرأةً يهوديةً أهدَتْ إلى النبي ﷺ شاةً مَصْلِيَّةً
بِخَيْبَر، فقال: «ما هذه»؟ قالتْ: هَديَّةٌ، وحَذِرَتْ أن تقولَ: مِنَ الصَّدَقة،
فلا يأكلُ منها، فأكل النبي ﷺ، وأكل الصحابةُ، ثُم قال: «أمسِكُوا»، ثم قال للمرأة: «هل سَمَمْتِ هذه
الشَّاة»؟ قالتْ: مَن أخبَرَك بهذا؟ قال: «هذا العظمُ لساقها»، وهو في يده، قالتْ:
نعمْ. قال: «لِمَ»؟ قالتْ: أردتُ إن كنتَ كاذبا أن يَستريحَ منك النَّاسُ، وإن
كنتَ نبيّا لم يَضرَّك، قال: فاحتَجَم النبي ﷺ ثلاثةً على الكاهِلِ، وأمَرَ
أصحابَه أن يَحتجِمُوا؛ فاحتَجَموا، فمات بعضُهم.
وفي طريق أُخرى: «واحتَجَمَ رسولُ الله ﷺ على كاهِلِه مِنْ
أجْل الذي أكَلَ من الشَّاة، حَجَمَه أبو هِندٍ بالقَرْنِ والشَّفْرة، وهو مولىً
لبنى بَيَاضَةَ من الأنصار، وبقى بعد ذلك ثلاثَ سنين حتى كان وجعُه الذي تُوفى
فيه، فقال: «ما زِلْتُ أجِدُ من الأُكْلَةِ التى أكَلْتُ مِن الشَّاةِ يومَ
خَيْبَرَ حتى كان هذا أوانَ انْقِطَاعِ الأَبْهَرِ مِنِّى»، فتُوفى رسول الله ﷺ
شهيدا، قاله موسى بن عُقبةَ.
معالجةُ السُّمِّ تكونُ بالاستفراغات، وبالأدوية التى
تُعارض فعل السُّم وتُبطله، إما بكيفياتها، وإما بخواصها. فمَن عَدِمَ الدواءَ،
فليبادر إلى الاستفراغ الكُلِّى وأنفعُه الحجامةُ، ولا سيما إذا كان البلد حارا،
والزمانُ حارا، فإن القوة السُّمِيَّةَ تَسرى إلى الدم، فتَنبعِثُ في العروق
والمجارى حتى تصِلَ إلى القلب، فيكون الهلاكُ، فالدمُ هو المنفذ الموصل للسُّم إلى
القلب والأعضاء، فإذا بادر المسمُومُ وأخرج الدم، خرجتْ معه تلك الكيفيةُ السُّمِيَّة
التى خالطتْه، فإن كان استفراغا تاما لم يَضرَّه السُّم، بل إما أن يَذهبَ، وإما
أن يَضعفَ فتقوى عليه الطبيعة، فتُبطل فعلَه أو تُضعفه.
ولما احتجم النبي ﷺ، احتجمَ في الكاهل، وهو أقربُ
المواضع التى يمكن فيها الحجامة إلى القلب، فخرجت المادةُ السُّمِيَّة مع الدم لا خُروجا
كُليّا، بل بَقِىَ أثرُها مع ضعفه لما يُريد الله سبحانه من تكميلِ مراتبِ الفضل
كُلِّها له، فلما أراد الله إكرامَه بالشهادة، ظهر تأثيرُ ذلك الأثر الكامِن من
السُّم ليَقضىَ اللهُ أمرا كان مفعولا، وظهر سِرُّ قوله تعالى لأعدائه من اليهود:
{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ}[19]، فجاء بلفظ «كَذَّبتم» بالماضى الذي قد
وقع منه، وتحقق، وجاء بلفظ: «تَقتلُون» بالمستقبل الذي يتوقَّعونه ويَنتظرونه..
والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج السحر الذي سحرته اليهود به
قد أنكر هذا طائفةٌ من الناس، وقالوا: لا يجوزُ هذا
عليه، وظنوه نقصا وعيبا، وليس الأمرُ كما زَعَموا، بل هو من جنس ما كان يَعتَريه ﷺ
من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابتُه به كإصابته بالسُّمِّ لا فرقَ بينهما.وقد
ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: «سُحِرَ رسولُ الله ﷺ حتى إنْ
كان لَيُخَيَّلُ إليه أنه يأتى نِساءه، ولم يَأتِهِنَّ»، وذلك أشدُّ ما يكون مِن
السِّحر.
قال القاضي عِيَاض: والسِّحر مرضٌ من الأمراض، وعارضٌ من
العلل يجوز عليه ﷺ كأنواع الأمراض ممَّا لا يُنكَرُ، ولا يَقدَحُ في نُبوته،
وأمَّا كونُه يُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه
داخلةً في شيء من صدقه، لقيام الدليل والإجماعِ على عصمته من هذا، وإنَّما هذا
فيما يجوز طُرُوُّه عليه في أمر دنياه التى لم يُبعث لسببها، ولا فُضِّل مِن
أجلها، وهو فيها عُرضةٌ للآفات كسائر البَشَر، فغيرُ بعيد أنه يُخيَّلَ إليه من
أُمورها ما لا حقيقةَ له، ثم يَنجلى عنه كما كان.
والمقصود: ذِكرُ هديه في علاج هذا المرض، وقد رُوي عنه
فيه نوعان:
أحدهما وهو أبلغُهما: استخراجُه وإبطاله، كما صحَّ عنه ﷺ
أنه سأل ربَّه سبحانه في ذلك؛ فدُلَّ عليه، فاستَخْرَجه من بئر، فكان في مِشْطٍ
ومُشَاطَةٍ، وجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَر، فلمَّا استَخْرَجه، ذهب ما به، حتى كأنَّما أُنْشِطَ
من عِقال، فهذا من أبلغ ما يُعالَجُ به المَطْبُوبُ، وهذا بمنزلة إزالةِ المادة
الخبيثة وقلْعِها مِن الجسد بالاستفراغ.
والنوع الثاني: الاستفراغُ في المحل الذي يَصِلُ إليه
أذى السِّحر، فإنَّ للسِّحر تأثيرا في الطبيعة، وهَيَجانِ أخلاطها، وتشويشِ
مِزاجها، فإذا ظهر أثرُهُ في عضو، وأمكن استفراغُ المادة الرديئة من ذلك العضو،
نَفَع جدا.
وقد ذكر أبو عُبيدٍ في كتاب «غريب الحديث» له بإسناده،
عن عبد الرحمن بن أبى لَيْلَى، أنَّ النبي ﷺ احْتَجمَ على رأسه بقَرْنٍ حين طُبَّ،
قال أبو عُبيد: معنى طُبَّ: أى: سُحِرَ.
وقد أشكَل هذا على مَن قَلَّ علمُه، وقال: ما للحجامة
والسِّحرِ؟ وما الرابطةُ بين هذا الداء وهذا الدواء؟ ولو وَجد هذا القائلُ أبقراط،
أو «ابنَ سينا» أو غيرَهما قد نَصَّ على هذا العلاجِ، لَتَلقَّاه بالقبولِ
والتسليم، وقال: قد نَصَّ عليه مَن لا يُشَكُّ في معرفته وفضله.
فاعلم أنَّ مادة السِّحر الذي أُصيب به ﷺ انتهت إلى رأسه
إلى إحدى قُواه التى فيه بحيث كان يُخيَّل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا
تصرُّف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن
المقدم منه، فغيَّرت مِزاجه عن طبيعته الأصلية.
والسِّحر: هو مركَّب من تأثيرات الأرواح الخبيثة،
وانفعال القُوَى الطبيعية عنها وهو سحر التمريحات وهو أشدَّ ما يكون من السِّحر،
ولا سيَّما في الموضع الذي انتهى السِّحرُ إليه، واستعمالُ الحجامةِ على ذلك
المكان الذي تضررت أفعالُه بالسِّحر من أنفع المعالجة إذا استُعْمِلتْ على القانون
الذي ينبغي.
قال أبقراط: الأشياءُ التى ينبغي أن تُسْتَفْرَغَ يجب
أَن تُستفرغ من المواضع التى هي إليها أميلُ بالأشياء التى تصلُح لاستفراغها.
وقالت طائفة من الناس: إنَّ رسولَ الله ﷺ لما أُصيب بهذا
الداءِ، وكان يُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله،ظَنَّ أن ذلك عن مادة دموية أو
غيرها مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدَّم منه، فأزالت مِزاجه عن
الحالة الطبيعية له، وكان استعمالُ الحجامة إذ ذاك مِن أبلغ الأدوية، وأنفع المعالجة،
فاحتجم، وكان ذلك قبل أن يُوحى إليه أنَّ ذلك من السِّحر، فلما جاءه الوحىُ من
الله تعالى، وأخبره أنه قد سُحِرَ، عدل إلى العلاج الحقيقىِّ وهو استخراجُ السِّحر
وإبطالُه، فسأل الله سبحانه، فدلَّه على مكانه، فاستخرجه، فقام كأنما أُنْشِطَ من
عِقال، وكان غايةُ هذا السِّحر فيه إنما هو في جسده، وظاهِر جوارحه، لا على عقلِه
وقلبِه، ولذلك لم يكن يعتقدُ صحة ما يُخيَّل إليه من إتيان النساء، بل يعلم أنه
خيال لا حقيقة له، ومثلُ هذا قد يَحدُثُ من بعض الأمراض.. والله أعلم.
فصل في أن الأدوية الإلهية هي أنفع علاجات السحر
ومن أنفع علاجات السِّحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويتُه
النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السُّفْلية، ودفعُ تأثيرها يكون
بما يُعارِضُها ويُقاومها من الأذكار، والآيات، والدعواتِ التى تُبْطِلُ فعلها وتأثيرها،
وكلما كانت أقوى وأشدّ، كانت أبلغَ في النُّشْرةِ، وذلك بمنزلة التقاءِ جيشين مع
كلِّ واحدٍ منهما عُدَّتُه وسلاحُه، فأيُّهما غلب الآخر، قهره، وكان الحكم له،
فالقلبُ إذا كان ممتلئا من الله مغمورا بذكره، وله من التوجُّهات والدعوات
والأذكار والتعوُّذات وردٌ لا يُخِلُّ به يُطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا مِن أعظم
الأسباب التى تمنع إصابة السِّحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يُصيبه.
وعند السَّحَرَة: أنَّ سِحرَهم إنما يَتِمُّ تأثيره في
القلوب الضعيفة المنفعِلة، والنفوس الشهوانية التى هي معلَّقةٌ بالسُّفليات، ولهذا
فإن غالب ما يؤثِّر في النساءِ، والصبيان، والجُهَّال، وأهل البوادى، ومَن ضَعُف
حظُّه من الدين والتوكل والتوحيد، ومَن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية والدعوات
والتعوُّذات النبوية.
وبالجملة..
فسلطانُ تأثيرِه في القُلوب الضعيفة المنفعلة التى يكون
ميلُها إلى السُّفليات، قالوا: والمسحورُ هو الذي يُعين على نفسه، فإنَّا نجد قلبه
متعلقا بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلَّط على قلبه بما فيه مِن الميل والالتفات،
والأرواح الخبيثة إنما تتسلَّطُ على أرواح تلقاها مستعِدَّة لتسلُّطِها عليها
بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغِها من القوة الإلهية، وعدم أخذها
للعُدَّة التى تُحاربها بها، فتجدها فارغة لا عُدَّة معها، وفيها مَيلٌ إلى ما
يُناسبها؛ فتتسلَّط عليها، ويتمَكَّن تأثيرُها فيها بالسِّحر وغيره.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في الاستفراغ بالقيء
روى الترمذي في جامعه عن مَعدان بن أبى طلحةَ، عن أبى
الدرداء: أنَّ النبي ﷺ قاءَ، فتوضَّأ فلقيتُ ثَوْبان في مسجد دِمَشق، فذكرتُ له
ذلك، فقال: صَدَقَ، أنا صَبَبْتُ له وَضُوءَه. قال الترمذي: وهذا أصح شيء في الباب.
القيء:
أحد الاستفراغات الخمسة التى هي أُصول الاستفراغ، وهى:
الإسهال، والقيء، وإخراج الدم، وخروج الأبخرة والعَرق. وقد جاءت بها السُّنَّة.
فأما الإسهال.. فقد مرَّ في حديث: «خيرُ ما تداويتم به
المَشِىُّ» وفى حديث «السَّنا». وأما إخراج الدم.. فقد تقدَّم في أحاديث الحِجامة.
وأما استفراغ الأبخرة.. فنذكره عقيبَ هذا الفصل إن شاء
الله.
وأما الاستفراغ بالعَرق.. فلا يكون غالبا بالقصد، بل
بدفع الطَّبيعة له إلى ظاهر الجسد، فيُصادف المسامَّ مفتَّحةً، فيخرج منها.
والقيء استفراغٌ من أعلا المَعِدَة، والحُقنة من أسفلها،
والدواءُ من أعلاها وأسفلها.
والقيء نوعان: نوعٌ بالغَلَبة والهَيجان، ونوعٌ
بالاستدعاء والطلب.
فأما الأول: فلا يَسُوغُ حبسُه ودفعه إلا إذا أفرط وخِيف
منه التلفُ، فيُقطع بالأشياء التى تُمسكه. وأما الثاني: فأنفعُه عند الحاجة إذا
رُوعى زمانُه وشروطه التى تُذكر.
وأسباب القيء عشرة..
أحدها: غلبة المِرَّة الصفراء، وطُفوُّها على رأس
المعدة، فتطلب الصعودَ.
الثاني: من غلبة بلغم لَزِجٍ قد تحرَّك في المَعِدَة،
واحتاج إلى الخروج.
الثالث: أن يكون مِن ضعف المَعِدَة في ذاتها، فلا تَهْضم
الطعام، فتقذفه إلى جهة فوق
الرابع: أن يُخالطها خلط رديء ينصبُّ إليها، فيسىء
هضمَها، ويُضعف فعلها
الخامس: أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر
الذي تحتمله المَعِدَة، فتعجز عن إمساكه، فتطلب دفعه وقذفه.
السادس: أن يكون مِن عدم موافقة المأكول والمشروب لها،
وكراهِتها له، فتطلب دفعه وقذفه.
السابع: أن يحصُل فيها ما يُثوِّر الطعامَ بكيفيته
وطبيعته، فتقذف به.
الثامن: القَرَف، وهو مُوجِب غثَيانِ النفس وتَهَوُّعِها.
التاسع:
من الأعراض النفسانية، كالهمِّ الشديد، والغم، والحزن،
وغلبة اشتغال الطبيعة والقُوَى الطبيعية به، واهتمامها بوروده عن تدبير البدن،
وإصلاح الغِذاء، وإنضاجه، وهضمه، فتقذِفُه المَعِدَة، وقد يكون لأجل تحرُّك الأخلاط
عند تخبُّط النفس، فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه، ويؤثر في كيفيته.
العاشر: نقل الطبيعة بأن يرى مَن يتقيأ، فيغلبه هو القيء
من غير استدعاء، فإن الطبيعة نَقَّالة.
وأخبرني بعض حُذَّاق الأطباء، قال: كان لى ابن أُخت
حَذِق في الكحْل، فجلس كحَّالا. فكان إذا فتح عينَ الرجل، ورأى الرَّمد وكحَّله،
رَمِد هو، وتكرر ذلك منه، فترك الجلوسَ. قلتُ له: فما سببُ ذلك؟ قال: نقلُ
الطبيعة، فإنها نَقَّالة، قال: وأعرِفُ آخرَ، كان رأى خُراجا في موضع من جسم رجل
يحكُّه، فحك هو ذلك الموضع، فخرجت فيه خُراجة.
قلتُ: وكلُّ هذا لا بد فيه من استعداد الطبيعة، وتكون
المادة ساكنةً فيها غير متحركة، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب، فهذه أسبابٌ لتحرك
المادة لا أنها هي الموجبة لهذا العارض.
فصل في أن القيء أنفع في البلاد الحارة والإسهال أنفع في
البلاد الباردة
ولما كانت الأخلاط في البلاد الحارة، والأزمنة الحارة
تَرِقُّ وتنجذب إلى فوق، كان القيء فيها أنفع. ولما كانت في الأزمنة الباردة
والبلاد الباردة تغلُظ، ويصعب جذبها إلى فوق، كان استفراغُها بالإسهال أنفع.
وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والاستفراغ، والجذبُ
يكون من أبعد الطُرُق، والاستفراغُ مِن أقربها، والفرق بينهما أنَّ المادة إذا
كانت عاملة في الانصباب أو الترقى لم تستقر بعد، فهى محتاجة إلى الجذب، فإن كانت
متصاعدة جذبَتْ من أسفل، وإن كانت منصَبَّة جذبَتْ مِن فوق، وأما إذا استقرت في
موضعها، استُفرغت مِن أقرب الطرق إليها، فمتى أضرَّت المادة بالأعضاء العليا، اجتُذبت
من أسفل، ومتى أضرَّت بالأعضاء السفلى، اجتُذبت من فوق، ومتى استقرت، استُفرغت من
أقرب مكان إليها، ولهذا احتجم النبي ﷺ على كاهِله تارة، وفى رأسه أُخرى، وعلى ظهر
قدمه تارة، فكان يستفرِغُ مادة الدم المؤذى من أقرب مكان إليه.. والله أعلم.
فصل في بعض فوائد القيء
والقيء يُنقِّى المَعِدَة ويُقوِّيها، ويُحِدُّ البصر،
ويزيل ثقل الرأس، وينفع قروح الكُلَى، والمثانة، والأمراض المزمنة: كالجذام،
والاستسقاء، والفالِج، والرَّعشة، وينفع اليَرَقان.
وينبغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين من
غير حفظ دور، ليتداركَ الثاني ما قصر عنه الأول، وينقى الفضلاتِ التى انصبَّت
بسببه، والإكثارُ منه يَضر المَعِدَة، ويجعلها قابلة للفضول، ويضر بالأسنان والبصر
والسمع، وربما صَدَعَ عَرَقا، ويجب أن يجتنبه مَن به ورمٌ في الحلق، أو ضعفٌ في
الصدر، أو دقيقُ الرقبة، أو مستعدٌ لنَفْث الدم، أو عَسِرُ الإجابة له.
وأمَّا ما يفعله كثير ممن يسىء التدبير، وهو أن يمتلئ من
الطعام، ثم يَقذِفَه، ففيه آفاتٌ عديدة؛ منها: أنه يُعَجِّلُ الهَرَم، ويُوقع في
أمراض رديئة، ويَجعل القيء له عادة. والقيء مع اليُبوسة، وضعفِ الأحشاء، وهُزالِ
المَرَاقِّ، أو ضعفِ المُستقيء خطرٌ.
وأحمَدُ أوقاتِه الصيفُ والربيع دون الشتاء والخريف، وينبغي
عند القيء أن يَعْصِبَ العينين، ويقمط البطن، ويغسِلَ الوجه بماء بارد عند الفراغ؛
وأن يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مُصْطَكَى، وماءُ الورد ينفعه نفعا بيِّنا.
والقيء يستفرغ من أعلى المعدة، ويجذب من أسفل، والإسهال
بالعكس، قال أبقراط: وينبغي أن يكون الاستفراغ في الصيف من فوق أكثرَ من الاستفراغ
بالدواء، وفى الشتاء من أسفل.
فصل في هديه ﷺ في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين
ذكر مالك في موطئه: عن زيد بن أسلمَ، أنَّ رجلا في زمان
رسول الله ﷺ أصابه جُرْحٌ، فاحتَقَن الجُرْحُ الدَّم. وأن الرجلَ دعا رجُلَيْن من
بنى أنمار، فنَظَرا إليه فزعما أنَّ رسولَ الله ﷺ، قال لهما: «أَيُّكما أطَبُّ»؟
فقال: أوَ في الطِّبِّ خيرٌ يا رسولَ الله؟ فقال: «أنزلَ الدواءَ الذي أنزلَ الداء».
ففي هذا الحديث أنه ينبغي الاستعانةُ في كل عِلم وصِناعة
بأحذقِ مَنْ فيها فالأحذق، فإنه إلى الإصابة أقربُ.
وهكذا يجب على المُستفتى أن يستعينَ على ما نَزلَ به
بالأعلم فالأعلم، لأنه أقربُ إصابةً ممَّن هُوَ دُونَه.
وكذلك مَن خَفيتْ عليه القِبْلةُ، فإنه يُقلِّدُ أعلمَ
مَن يَجدُه، وعلى هذا فَطَر الله عبادَه، كما أن المسافر في البرِّ والبحر إنَّما
سكونُ نفسه، وطمأنينتُه إلى أحْذقِ الدليلَيْن وأخبَرِهما، وله يَقصِدُ، وعليه يَعتمِدُ،
فقد اتفقتْ على هذا الشريعةُ والفِطرةُ والعقلُ.
وقولُه ﷺ:
«أنزل الدواءَ الذي أنزلَ الداءَ»، قد جاء مثلُه عنه في
أحاديث كثيرةٍ، فمنها ما رواه عمرو بن دِينارٍ عن هِلال بن يِسَافٍ، قال: «دخلَ
رسولُ الله ﷺ على مريض يَعودُه، فقال: «أرسِلُوا إلى طَبيبٍ»، فقال قائلٌ: وأنتَ تقولُ
ذلك يا رسولَ الله؟ قال: «نعمْ، إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلاَّ
أنزَلَ له دَواءً».
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرةَ يَرفعُه: «ما أنزلَ
اللهُ من داءٍ إلا أنزلَ له شفاء»، وقد تقدَّم هذا الحديثُ وغيرُه.
واختُلِفَ في معنى «أنزل الداءَ والدواء»، فقالت طائفةٌ:
إنزالُه إعلامُ العِباد به، وليس بشيء، فإن النبي ﷺ أخبرَ بعموم الإنزال لكل داءٍ
ودوائه، وأكثرُ الخلق لايعلمون ذلك، ولهذا قال: «عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه
مَن جَهِلَه».
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما: خَلْقُهما ووضْعُهما في الأرض،
كما في الحديث الآخر: «إنَّ الله لم يَضعْ داءً إلاَّ وَضَعَ له دواءً»، وهذا وإن
كان أقربَ مِن الذي قبله، فلَفْظةُ «الإنزال» أخصُّ من لفظة «الخلق» و«الوضع»، فلا
ينبغي إسقاطُ خصوصيةِ اللَّفظة بلا موجِب.
وقالت طائفةٌ:
إنزالُهما بواسطةِ الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من
داء ودواء وغيرِ ذلك، فإنَّ الملائكة موكَّلَةٌ بأمر هذا العالَم، وأمر النوع
الإنسانىِّ من حين سقوطِه في رَحِم أُمِّه إلى حين موتِه، فإنزالُ الداء والدواء
مع الملائكة، وهذا أقربُ من الوجهين قبله. وقالت طائفةٌ: إنَّ عامة الأدواء والأَدوية
هي بواسطة إنزال الغَيْثِ من السماء الذي تَتولَّد به الأغذيةُ، والأَقواتُ،
والأدويةُ، والأدواءُ، وآلاتُ ذلك كله، وأسبابُه ومكمِّلاتُه؛ وما كان منها مِن
المعادن العُلوية، فهى تَنزل مِن الجبال، وما كان منها من الأودية والأنهار
والثمار، فداخلٌ في اللَّفظ على طريق التغليبِ والاكتفاءِ عن الفعلين بفعل واحد
يتضمنهما، وهو معروف من لغة العرب، بل وغيرها من الأُمم، كقول الشاعر:
عَلفْتُها تِبْنا وَمَاءً باردا حَتَّى غَدَتْ
هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
وقول الآخر:
وَرأَيْتُ زَوْجكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّدا سَيْفا
وَرُمْحَا
وقول الآخر:
إذَا مَا الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْما وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ
وَالْعُيُونا
وهذا أحسنُ مما قبله من الوجوه.. والله أعلم.
وهذا من تمام حكمة الربِّ عَزَّ وجَلَّ، وتمامِ ربوبيته،
فإنه كما ابتلى عبادَه بالأدواء، أعانهم عليها بما يسَّرَهُ لهم من الأدوية، وكما
ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة، والحسناتِ الماحية والمصائب المكفِّرة،
وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثةِ من الشياطين، أعانهم عليها بجُنْدٍ من الأرواح الطيبة،
وهم الملائكة، وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسَّرَهُ لهم شرعا
وقدْرا مِن المشتهيات اللَّذيذة النافعة، فما ابتلاهم سُبحانه بشيء إلا أعطاهم ما
يستعينُون به على ذلك البلاء، ويدفعُونه به، ويبقى التفاوتُ بينهم في العلم بذلك،
والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه..
وبالله المستعان.
فصل في هديه ﷺ في تضمين من طب الناس وهو جاهل بالطب
روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عمرو ابن
شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول ُالله ﷺ: «مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ
الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ».
هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أُمور: أمرٌ لُغوي، وأمرٌ
فقهي، وأمرٌ طبي.
فالطِّب بكسر الطاء في لغة العرب، يقال على معانٍ. منها
الإصلاح. يقال: طببتُه: إذا أصلحته. ويقال: له طِبٌ بالأمور. أى: لُطفٌ وسياسة. قال
الشاعر:
وإذَا تغيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُها كُنْتَ الطَّبيبَ
لَها بِرَأْىٍ ثَاقِبٍ
ومنها:
الحِذق. قال الجوهرىُّ: كلُّ حاذقٍ طبيبٌ عند العرب، قال
أبو عبيد: أصل الطِّب: الحِذْق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل: طب وطبيب: إذا
كان كذلك، وإن كان في غير علاج المريض. وقال غيرُه: رجل طبيبٌ؛ أى: حاذقٌ، سمى طبيبا
لحِذقه وفِطْنته. قال علقمة:
فَإنْ تَسْأَلُونى بِالنِّسَاءِ فَإنَّنى خَبِيرٌ
بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُه فَلَيْسَ
لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وقال عنترةُ:
إنْ تُغْدِفِى دُونى الْقِنَاعَ فَإنَّنِى طَبٌ بِأَخْذِ
الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
أى: إن تُرخى عنى قِناعك، وتَستُرى وجهك رغبةً عنى، فإنى
خبيرٌ حاذقٌ بأخذ الفارس الذي قد لبس لأَمةَ حربه.
ومنها: العادة، يقال: ليس ذلك بطبي، أى: عادتى، قال
فَرْوةُ بن مُسَيكٍ:
فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِن مَنَايَانَا
وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وقال أحمد بن الحسين المتنبى:
وَمَا التِّيهُ طبي فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِى بَغِيضٌ
إلَىَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
ومنها:
السِّحر؛ يقال: رجل مطبوب، أى: مسحور، وفى الصحيح من
حديث عائشة لمَّا سحرت يهودُ رسولَ الله ﷺ، وجلس الملَكَانِ عِنْدَ رأسه وعند
رجليه، فقال أحدهما: ما بالُ الرَّجُلِ؟ قال الآخر: مَطْبُوبٌ. قال: مَن طَبَّه؟
قال: فلان
اليهودىُّ.
قال أبو عبيد: إنما قالوا للمسحور: مَطْبُوب؛ لأنهم كنَّوْا
بالطِّبِّ عن السِّحر، كما كنَّوا عن اللَّديغ، فقالوا: سليمٌ تفاؤلا بالسلامة،
وكما كنَّوا بالمفازة عن الفلاة المُهلكة التى لا ماء فيها، فقالوا: مفازة تفاؤلا
بالفوز من الهلاك. ويقال الطِّبُّ لنفس الداء. قال ابْنُ أبى الأسلت:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّى أَسِحْرٌ كَانَ
طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ؟
وأما قول الحماسي:
فإن كُنْتَ مَطْبُوبا فَلا زِلْتَ هَكَذَا وإن كُنْتَ
مَسْحُورا فلا بَرِئَ السِّحْرُ
فإنه أراد بالمطبوب الذي قد سُحِر، وأراد بالمسحور:
العليل بالمرض.
قال الجوهرى: ويقال للعليل: مسحور. وأنشد البيت. ومعناه:
إن كان هذا الذي قد عرانى منكِ ومِن حُبِّك أسألُ اللهَ دوامه، ولا أريدُ زواله،
سواء أكان سحرا أو مرضا.
والطبُّ: مثلثُ الطاء، فالمفتوح الطاءُ: هو العالِم بالأُمور،
وكذلك الطبيبُ يقال له: طَب أيضا. والطِّبُّ: بكسر الطاء: فِعْلُ الطبيب،
والطُّبُّ بضم الطاء: اسم موضع. قاله ابن السِّيد، وأنشد:
فَقُلْتُ هَل انْهَلْتُم بِطُبَّ رِكَابَكُمْ
بِجَائِزَةِ الماءِ التى طَابَ طينُهَا
وقوله ﷺ: «مَنْ تَطَبَّبَ» ولم يقل: مَن طَبَّ، لأن لفظ
التَّفعل يدل على تكلُّف الشيء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله،
كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن، قال
الشاعر:
وَقَيسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسَا *
وأما الأمر الشرعي: فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل،
فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ
الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه
الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطابي: لا أعلم خلافا في أن المعالِج إذا تعدَّى،
فتَلِفَ المريضُ كان ضامنا، والمتعاطى علما أو عملا لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من
فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض
وجنايةُ المُتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه.
قلت: الأقسام خمسة
أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده،
فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو
النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقا، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا
كما إذا خَتَنَ الصبىَّ في وقت، وسِنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها،
فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغي
بطُّه في وقته على الوجه الذي ينبغي فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ
مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل في سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص
عند الجمهور خلافا لأبى حنيفة في إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل
امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافا لأبى حنيفة والشافعي في
إيجابهما الضمانَ في ذلك، واستثنى الشافعي ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعا ونزاعا: أنَّ
سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما
ففيه النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقا، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ
الشافعي بين المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو
حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطا بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ
الإذن أسقط الضمانَ، والشافعي نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو
بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا
تَلِفَ بها، ضمن، لأنه في مَظِنَّة العُدوان.
فصل القسمُ الثاني: متطبِّبٌ جاهِلٍ باشرت يدُه مَن
يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ
له في طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهرَ الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة
الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه
طبيب، وأذن له في طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له
دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ
ظاهر فيه أو صريح.
فصل القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق، أُذن له، وأعطى الصَّنعة
حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن
إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد،
فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة في ماله، أو في بيت
المال؟ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا، ففي ماله؛
وإن كان مسلما، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل
تسقط الدِّيَة، أو تجب في مال الجانى؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
فصل القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته،
اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ في اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛
إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض في بيت المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد
نص عليهما الإمامُ أحمد في خطإ الإمام والحاكم.
فصل القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها، فقطع
سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبيا بغير
إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه،
وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن
مطلقا لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ. وأيضا فإنه إن كان متعدِّيا، فلا
أثر لإذن الولىّ في إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّيا، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند
الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر
للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.
فصل والطبيبُ في هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله،
وهو الذي يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه
وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه
وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو
الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب
يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء
عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم.
فصل والطبيب الحاذق: هو الذي يراعى في علاجه عشرين أمرا:
أحدها: النظر في نوع المرض من أي الأمراض هو؟
الثاني: النظر في سببه من أي شيء حدث، والعِلَّةُ
الفاعلةُ التى كانت سببَ حدوثه ما هي؟
الثالث:
قوة المريض، وهل هي مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه؟ فإن
كانت مقاومةً للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكنا.
الرابع: مزاج البدن الطبيعي ما هو؟
الخامس: المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعي.
السادس: سِنُّ المريض.
السابع: عادته.
الثامن: الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به.
التاسع: بلدُ المريض وتُربتُه.
العاشر: حال الهواء في وقت المرض.
الحادي عشر: النظر في الدواء المضاد لتلك العِلَّة.
الثاني عشر: النظر في قوة الدواء ودرجته، والموازنة
بينها وبين قوة المريض.
الثالث عشر: ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط،
بل إزالتُها على وجهٍ يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها
حدوث عِلَّةٍ أُخرى أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض
أفواه العروق، فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه.
الرابع عشر: أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ
من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب
إلا عند تعذرِ الدواء البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية،
وبالأدوية البسيطة بدل المركَّبة.
الخامس عشر: أن ينظر في العِلَّة، هل هي مما يمكن
علاجُها أو لا؟ فإن لم يُمكن علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع
على علاج لا يفيد شيئا. وإن أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا؟ فإن علم أنه
لا يمكن زوالُها، نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلُها،
ورأى أنَّ غاية الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة،
وأضعف المادة
السادس عشر: ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل
يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ نضجُه، بادر إلى استفراغه.
السابع عشر: أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح
وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس
والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب إذا كان عارفا بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ
الكاملَ، والذي لا خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوالِ البدن
نصفُ طبيب. وكلُّ طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه
بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل
متطبِّبٌ قاصر. ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء،
والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ في دفع العلل، وحصول
الشفاء أعظمُ من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها في
ذلك ونفعه.
الثامن عشر: التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف
بالصبى.
التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية
والإلهية، والعلاج بالتخييل، فإنَّ لِحذَّاق الأطباء في التخييل أُمورا عجيبة لا
يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين.
العشرون: وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه
دائرا على سِتَّة أركان: حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان،
وإزالة العِلَّة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى المفسدتَيْن لإزالة
أعظمهما، وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّتَّة
مدارُ العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التى يرجع إليها، فليس بطبيب..
والله أعلم.
فصل ولما كان للمرض أربعةُ أحوال: ابتداءٌ، وصُعودٌ،
وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما
يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ في كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها. فإذا رأى في ابتداء
المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر
إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة
وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغي أن يَحْذَرَ كل
الحَذرِ أن يفعل ذلك في صعود المرض، لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها
بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية، ومثاله: أن يجىءَ إلى فارس
مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر آخر، ولكن الواجب في هذه الحال أن يُعين
الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ في استفراغه، واستئصال
أسبابه، فإذا أخذ في الانحطاط، كان أولى بذلك. ومثالُ هذا مثال العدو إذا انتهت
قُوَّته، وفرغ سِلاحُه، كان أخذُه سهلا، فإذا ولَّى وأخذ في الهرب، كان أسهلَ
أخذا، وحِدَّته وشَوْكتُه إنما هي في ابتدائه، وحال استفراغه، وسعة قُوَّته، فهكذا
الداء والدواء سواء.
فصل وَمِن حِذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل،
فلا يَعْدِلُ إلى الأصعب، ويتدَّرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فَوتَ
القُوَّة حينئذ، فَيجبُ أن يبتدىء بالأقوى، ولا يُقيم في المعالجة على حال واحدة
فتألفُها الطبيعة، ويَقِلُّ انفعالُها عنه، ولا تَجْسُر على الأدوية القوية في
الفصول القوية، وقد تقدَّم أنه إذا أمكنه العلاج بالغذاء، فلا يُعالِج بالدواء،
وإذا أشكل عليه المرضُ أحارٌ هو أم بارد؟ فلا يقدم حتى يتبيَّن له، ولا يُجرِّبه
بما يخاف عاقبته، ولا بأس بتجرِبته بما لا يضرُّ أثرُه.
وإذا اجتمعت أمراض، بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال:
إحداها: أن يكون بُرء الآخر موقوفا على بُرئه كالورم
والقُرحة، فإنه يبدأ بالورم.
الثانية: أن يكون أحدهُما سببا للآخر، كالسَّدة
والحُمَّى العَفِنة، فإنه يبدأ بإزالة السبب.
الثالثة:
أن يكون أحدهما أهمَ من الآخر، كالحاد والمزمن، فيبدأ
بالحاد. ومع هذا فلا يغفُلُ عن الآخر. وإذا اجتمع المرض والعَرَض، بدأ بالمرض، إلا
أن يكون العَرَضُ أقوى كالقُولنج، فيُسكن الوجع أولا، ثم يُعالج السَّدة. وإذا أمكنه
أن يعتاضَ عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم، لم يستفرغه، وكُلّ
صحة أراد حفظها، حفظها بالمثل أو الشبه، وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضلُ منها،
نقلها بالضد.
فصل في هديه ﷺ في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها
وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها
ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله، أنه كان في
وَفْد ثَقِيف رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبي ﷺ: «ارْجِعْ فَقَدْ بايَعْنَاكَ».
وروى البخاري في صحيحه تعليقا مِن حديث أبى هريرة، عن
النبي ﷺ أنه قال: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ».
وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس، أنَّ النبي ﷺ قال:
«لا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلى الْمَجْذُومِين».
وفي الصحيحين من حديث أبى هُريرة، قال: قال رسولُ الله
ﷺ: «لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ».
ويُذكر عنه ﷺ: «كَلِّمْ الْمَجْذُومَ، وَبَيْنَك
وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ».
الجُذَام:
عِلَّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرَّةِ السَّوداء في
البدن كُلِّه، فيفسُد مِزاجُ الأعضاء وهيئتُها وشكلُها، ورُبما فسد في آخره
اتصالُها حتى تتأكَّلَ الأعضاء وتسقط، ويُسمى داءَ الأسد.
وفي هذه التسمية ثلاثةُ أقوال للأطباء؛ أحدها: أنها
لِكثرة ما تعترى الأسد. والثاني: لأنَّ هذه العِلَّة تُجهِّم وجهَ صاحبها وتجعلُه
في سُحنةَ الأسد. والثالث: أنه يفترِسُ مَن يقرُبه، أو يدنو منه بدائه افتراسَ
الأسد.
وهذه العِلَّة عند الأطباء من العلل المُعدية المتوارثة،
ومقارِبُ المجذوم، وصاحبِ السِّل يَسْقَمُ برائحته، فالنبي ﷺ لكمال شفقته على
الأُمة، ونُصحه لهم نهاهم عن الأسباب التى تُعرِّضهم لوصول العيب والفساد إلى
أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيُّؤ واستعداد كامن لقبول هذا
الداء، وقد تكون الطبيعةُ سريعة الانفعال قابلةً للاكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه
وتُخالطه، فإنها نقَّالة، وقد يكون خوفُها من ذلك ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة
تلك العِلَّة لها، فإنَّ الوهم فعَّال مستَوْلٍ على القُوَى والطبائع، وقد تَصِلُ
رائحة العليل إلى الصحيح فتُسقمه، وهذا معايَن في بعض الأمراض، والرائحةُ أحدُ
أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعدادِ البدن وقبوله لذلك الداء، وقد
تزوَّج النبي ﷺ امرأةً، فلما أراد الدخولَ بها، وجَد بكَشْحها بياضا، فقال:
«الْحَقِى بأهْلِكِ».
وقد ظنَّ طائفة مِن الناس أنَّ هذه الأحاديث معارَضةٌ
بأحاديثَ أُخَر تُبطلها وتُناقضها، فمنها: ما رواه الترمذي، من حديث عبد الله بن
عمر (ان رسول الله ﷺ أخذ بيَدِ رجُلٍ مجذومٍ، فأدخلها معه في القَصْعَةِ، وقال:
«كُلْ باسم الله، ثِقَةً بالله، وتوكُّلا عليه»، ورواه ابن ماجه.
وبما ثبت في الصحيح، عن أبى هُريرة، عن النبي ﷺ أنه قال:
«لا عَدوَى ولا طِّيَرَة».
ونحن نقول: لا تعارُض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة.
فإذا وقع التعارضُ، فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس مِن كلامه ﷺ وقد غَلِطَ فيه
بعضُ الرواة مع كونه ثقةً ثَبتا، فالثقةُ يَغْلَطُ، أو يكونُ أحدُ الحديثين ناسخا
للآخر إذا كان مما يَقْبَلُ النسخ، أو يكونُ التعارضُ في فهم السامع، لا في في نفس
كلامه ﷺ، فلا بُدَّ مِن وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان
متناقضان مِن كل وجه، ليس أحدُهما ناسخا للآخر، فهذا لا يُوجد أصلا، ومعاذَ اللهِ
أن يُوجَدَ في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحقُّ، والآفةُ
مِن التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القُصور في فهم
مُراده ﷺ، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معا. ومن ههنا وقع من الاختلاف
والفساد ما وقع.. وبالله التوفيق.
قال ابن قتيبة في كتاب «اختلاف الحديث» له حكايةً عن
أعداء الحديث وأهله: قالوا: حديثان متناقضان رويتُم عن النبي ﷺ أنه قال: «لا عَدوَى
ولا طِّيَرَة». وقيل له: إنَّ النُّقْبَةَ تقع بمِشْفَرِ البَعيرِ، فيجرَبُ لذلك
الإبلُ،
قال: «فما أعدَى الأولَ»؟، ثم رويتُم: «لا يُوردُ ذو
عاهة على مُصِحٍّ» و«وفِرَّ من المجذومِ فِرارَك من الأسَدِ»، وأتاه رجل مجذوم
ليُبايَعه بَيْعة الإسلام، فأرسل إليه البَيْعةَ، وأمَره بالانصراف، ولم يأذن له،
وقال: «الشُّؤمُ في المرأة والدارِ والدَّابةِ».. قالوا: وهذا كُلُّه مختلِفٌ لا يُشبه
بعضُه بعضا.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا اختلافٌ، ولكل
معنى منها وقتٌ وموضع، فإذا وُضِع موضعَه زال الاختلاف
والعدوى جنسان ؛ أحدهما: عدوى الجُذام، فإنَّ المجذوم
تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمُ مَن أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ
المجذوم، فتُضاجِعُه في شِعارَ واحد، فيُوصِل إليها الأذى، وربما جُذِمَتْ، وكذلك
ولدُه يَنزِعُون في الكِبر إليه، وكذلك مَن كان به سِلٌ ودِقٌ ونُقْبٌ. والأطباء تأمر
ألا يُجالَس المسلول ولا المجذُوم، ولا يُريدون بذلك معنى العدوى، وإنما يُريدون
به معنى تغيُّرِ الرائحة، وأنها قد تُسْقِمْ مَن أطال اشتمامَها، والأطباء أبعدُ
الناس عن الإيمان بيُمن وشُؤم، وكذلك النُّقْبةُ تكون بالبعير وهو جَرَبٌ رَطبٌ
فإذا خالط الإبلَ أو حاكَّها، وأوَى في مَباركها، وصل إليها بالماء الذي يَسيل
منه، وبالنَّطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي ﷺ: «لا يُورَدُ ذو
عاهة على مُصِح»، كَرِهَ أن يُخالط المَعْيُوه الصحيحَ، لئلا ينالَه مِن نَطَفه
وحِكَّته نحو مما به.
قال: وأما الجنسُ الآخرُ من العدوى، فهو الطاعونُ ينزلُ ببلد،
فيخرُج منه خوفَ العدوى، وقد قال ﷺ: «إذا وقَعَ بِبَلَدٍ وأنْتُم به، فلا
تَخْرُجُوا مِنْه، وإذا كان بِبَلَدٍ، فلا تَدْخُلُوه». يريد بقوله: لا تَخْرُجُوا
مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أنَّ الفِرارَ مِن قَدَر الله يُنجيكم من الله،
ويُريد بقوله:
«وإذا كان ببلد فلا تدخلوه»، أي: مُقامُكم في الموضع الذي
لا طاعون فيه أسْكنُ لقلوبكم، وأطيبُ لعيشكم، ومن ذلك المرأةُ تُعرف بالشؤم أو
الدارُ، فينال الرجلَ مكروةٌ أو جائحةٌ، فيقول: أعدتْنى بشؤمها، فهذا هو العدوى
الذي قال فيه رسولُ الله ﷺ: «لا عَدْوَى».
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الأمرُ باجتنابِ المجذوم
والفِرار منه على الاستحباب، والاختيار، والإرشاد. وأما الأكل معه، ففَعلُه لبيانِ
الجواز، وأنَّ هذا ليس بحرام.
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الخطابُ بهذين الخطابين جزئى لا كلى.
فكلُّ واحد خاطبه النبي ﷺ بما يليق بحاله، فبعضُ الناس يكون قوىَّ الإيمان، قوىَّ
التوكل تدفع قوةُ توكله قُوَّةَ العدوى، كما تدفع قوةُ الطبيعة قوةَ العِلَّة
فتُبطلها، وبعضُ الناس لا يَقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك
هو ﷺ فَعل الحالتين معا، لتقتدى به الأُمة فيهما، فيأخذ مَن قَوى من أُمته بطريقة
التوكل والقُوَّة والثقة بالله، ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط، وهما
طريقان صحيحان. أحدهما: للمؤمن القوى، والآخر: للمؤمن الضعيف، فتكون لكل واحد من
الطائفتين حُجَّةٌ وقُدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه ﷺ كَوى، وأثنَى
على تارِك الكىِّ، وقرن تركَه بالتوكل، وتَرَكَ الطِّيرة، ولهذا نظائرُ كثيرة، وهذه
طريقة لطيفةٌ حسنة جدا مَن أعطاها حقَّها، ورُزِق فقْه نَفْسه فيها، أزالت عنه
تعارضا كثيرا يظنه بالسُّنَّةِ الصحيحة.
وذهبت فِرقة أُخرى إلى أنَّ الأمر بالفِرار منه،
ومجانبتِه لأمر طبيعي، وهو انتقالُ الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة
إلى الصحيح، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكلُه معه مقدارا
يسيرا من الزمان لمصلحة راجحة، فلا بأس به، ولا تحصُل العدوى مِن مرَّةٍ واحدة
ولحظة واحدة، فنَهى سدا للذريعة، وحِمايةً للصحة، وخالطه مخالطةً ما للحاجة
والمصلحة، فلا تعارُضَ بين الأمرين.
وقالت طائفة أُخرى: يجوز أن يكونَ هذا المجذومُ الذي أكل
معه به من الجُذام أمرٌ يسير لا يُعدى مثله، وليس الْجَذْمَى كُلُّهم سواءً، ولا
العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم مَن لا تضرُّ مخالطته، ولا تُعدى، وهو مَن أصابه
من ذلك شيء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يُعْدِ بقيةَ جسمه، فهو أن لا
يعدِىَ غيره أولى وأحرى.
وقالت فِرقة أُخرى: إنَّ الجاهلية كانت تعتقد أنَّ
الأمراض المعدية تُعدى بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبي ﷺ
اعتقادَهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله سبحانه هو الذي يُمرض
ويَشفى، ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنَّ هذا من الأسباب التى جعلها الله
مُفضية إلى مسبباتها، ففي نهيه إثباتُ الأسباب، وفى فعله بيان أنها لا تستقِلُّ
بشيء، بل الربُّ سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقى عليها
قُواها فأثَّرت.
وقالت فِرقة أُخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ
والمنسوخ، فيُنظر في تاريخها، فإن عُلِمَ المتأخر منها، حُكِمَ بأنه الناسخ، وإلا توقفنا
فيها.
وقالت فِرقة أُخرى: بل بعضُها محفوظ، وبعضها غيرُ محفوظ،
وتكلمت في حديث: «لا عَدّوَى»، وقالت: قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلا، ثم شكَّ فيه
فتركه، وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تُحدِّث به، فأبى أن يُحدِّث به.
قال أبو سلمة: فلا أدرى، أنسىَ أبو هريرة، أم نَسخَ أحدُ
الحديثين الآخَر؟
وأما حديثُ جابر: أنَّ النبي ﷺ أخذ بيدِ مجذوم، فأدخلها
معه في القصعة، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ، وغاية ما قال فيه الترمذي: إنه غريب،
لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه. وقد قال شعبة وغيرُه: اتقوا هذه الغرائبَ. قال
الترمذي: ويُروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأنُ هذين الحديثين اللَّذين عُورض
بهما أحاديثُ النهى، أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره، والثاني: لا يَصِحُّ عن
رسول الله ﷺ، والله أعلم، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب «المفتاح»،
بأطولَ من هذا.. وبالله التوفيق.
فصل في هديه ﷺ في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود في سننه من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه
قال: قال رسولُ الله ﷺ: «إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاء، وَجَعَلَ
لِكُلِّ داءٍ دواءً، فَتَدَاوَوْا، ولا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرَّم».
وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود: «إنَّ اللهَ لَمْ
يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عليكم».
وفي السنن عن أبى هريرة، قال: نهى رسول الله ﷺ عَنِ
الدَّوَاءِ الخَبِيثِ.
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سُوَيد الجُعفىِّ، أنه سأل
النبي ﷺ عن الخمر، فنهاه، أو كَرِهَ أن يصنَعَها، فقال: إنما أصنعُها للدواء،
فقال: «إنَّه لَيْسَ بِدَوَاءٍ ولكنَّهُ دَاءٌ».
وفي السنن أنه ﷺ سُئل عن الخمر يُجْعَل في الدَّواء،
فقال: «إنَّهَا دَاءٌ ولَيسَتْ بِالدَّوَاءِ» رواه أبو داود، والترمذي.
وفي صحيح مسلم عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال: قلت: يا
رسول الله ؛ إنَّ بأرضنا أعنابا نَعتصِرُها فنشرب منها، قال: «لا». فراجعتُه،
قلتُ: إنَّا نستشفى للمريض قال: «إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ».
وفي سنن النسائي أنَّ طبيبا ذَكر ضِفْدَعا في دواءٍ عند
رسول الله ﷺ، فنهاه عن قَتْلِها.
ويُذكر عنه ﷺ أنه قال: «مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ، فَلا
شَفَاهُ اللهُ».
المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلا وشرعا، أمَّا الشرعُ
فما ذكرْنا من هذه الأحاديثِ وغيرها. وأمَّا العقلُ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما
حرَّمه لخُبثه، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيبا عقوبةً لها، كما حرَّمه على
بنى إسرائيلَ بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ}[20]، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم
لخبثه، وتحريمُه له حِمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به
الشِّفاءُ من الأسقام والعِلل، فإنه وإن أثَّر في إزالتها، لكنه يُعْقِبُ سَقَما
أعظمَ منه في القلب بقوة الخُبث الذي فيه، فيكون المُدَاوَى به قد سعى في إزالة
سُقْم البدن بسُقْم القلب.
وأيضا فإنَّ تحريمه يقتضى تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ
طريق، وفى اتخاذه دواء حضٌ على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع،
وأيضا فإنه داء كما نصَّ عليه صاحبُ الشريعة، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً.
وأيضا فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخبث، لأن الطبيعة
تنفعِلُ عن كيفية الدواء انفعالا بَيِّنا، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً، اكتسبت
الطبيعةُ منه خُبثا، فكيف إذا كان خبيثا في ذاته، ولهذا حرَّم الله سبحانه على
عباده الأغذيةَ والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث
وصفته.
وأيضا فإنَّ في إباحة التداوي به، ولا سِيَّما إذا كانت
النفوسُ تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللَّذة، لا سِيَّما إذا عرفت
النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامِها جالبٌ لِشفائها، فهذا أحبُّ شيء إليها،
والشارعُ سدَّ الذريعة إلى تناوله بكُلِّ ممكن، ولا ريبَ أنَّ بينَ سدِّ الذريعة
إلى تناوله، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضا وتعارضا.
وأيضا فإنَّ في هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ
على ما يُظَن فيه من الشِّفاء، ولنفرضْ الكلام في أُمِّ الخبائث التى ما جعل الله
لنا فيها شفاءً قَطُّ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ الذي هو مركزُ العقل عند
الأطباء، وكثير من الفقهاء والمتكلمين.
قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة: ضرر الخمرة
بالرأس شديد. لأنه يُسرع الارتفاع إليه. ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التى تعلو في
البدن، وهو لذلك يضر بالذهن.
وقال صاحب الكامل: إنَّ خاصية الشَّراب الإضرارُ بالدماغ
والعَصَب.
وأمَّا غيرُه من الأدوية المحرَّمة فنوعان:
أحدهما:
تعافُه النفس ولا تنبعِثُ لمساعدته الطبيعةُ على دفع
المرض به كالسموم، ولحوم الأفاعى وغيرها من المستقذرات، فيبقى كَلا على الطبيعة
مثقلا لها، فيصير حينئذ داءً لا دواء.
والثاني: ما لا تَعافُه النفس كالشراب الذي تستعمِلُه
الحوامل مثلا، فهذا ضررُه أكثرُ من نفعه، والعقلُ يقضى بتحريم ذلك، فالعقلُ
والفِطرةُ مطابقٌ للشرع في ذلك.
وهاهنا سِرٌ لطيف في كون المحرَّمات لا يُستشفَى بها،
فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول، واعتقادُ منفعته، وما جعل الله فيه من
بركة الشفاء، فإنَّ النافعَ هو المبارَك، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها، والمبارَكُ من
الناس أينما كان هو الذي يُنتفَع به حيث حَلَّ، ومعلوم أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ
هذه العَيْن مما يَحولُ بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حُسن ظنه بها،
وتلقِّى طبعه لها بالقبول، بل كلَّما كان العبدُ أعظمَ إيمانا، كان أكره لها وأسوأ
اعتقادا فيها، وطبعُه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال، كانت داءً له لا
دواء إلا أن يزولَ اعتقادُ الخُبث فيها، وسوءُ الظن والكراهةُ لها بالمحبة، وهذا
يُنافى الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قَطُّ إلا على وجه داء.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج القمل الذي في الرأس وإزالته
فى الصحيحين عن كعب بن عُجْرةَ، قال: كان بى أذىً مِن
رأسي، فَحُمِلْتُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ والقَمْلُ يَتناثَرُ على وجهي، فقال: «ما كنتُ
أَرى الجَهْدَ قد بَلَغَ بِكَ ما أرَى»، وفى رواية: فأمَرَه أن يَحْلِقَ رأسَه،
وأن يُطعِمَ فَرقا بَيْنَ سِتَّةٍ، أو يُهدِي شاة، أو يَصُومَ ثلاثةَ أيامٍ.
القمل يتولَّد في الرأس والبدن من شيئين: خارج عن البدن
وداخلٍ فيه، فالخارجُ: الوسخُ والدنس المتراكم في سطح الجسد، والثاني: من خلط رديء
عفن تدفعُه الطبيعة بين الجلد واللَّحم، فيتعفَّنُ بالرُّطوبة الدموية في
البَشَرَةِ بعد خُروجها من المسام، فيكون مِنه القملُ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد
العلل والأسقام، وبسبب الأوساخ، وإنما كان في رؤوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم
الأسباب التى تُولِّد القمل، ولذلك حَلَقَ النبي ﷺ رؤوسَ بنى جعفر.
ومن أكبر علاجه حَلْقُ الرأس لِتنفتح مسامُّ الأبخرَة، فتتصاعد
الأبخرة الرديئة، فتضعفُ مادة الخلط، وينبغي أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التى
تقتل القمل، وتمنع تولُّده.
وحلقُ الرأس ثلاثة أنواع ؛ أحدها: نُسُك وقُربة.
والثاني: بِدعة وشرك. والثالث: حاجة ودواء.
فالأول: الحلق في أحد النُّسُكين، الحجِّ أو العُمرة.
والثاني:
حلقُ الرأس لغير الله سبحانه. كما يحلِقها المريدُون
لشيوخهم، فيقول أحدهم: أنا حلقتُ رأسى لفلان، وأنت حلقتَه لفلان، وهذا بمنزلة أن
يقول: سجدتُ لفلان، فإنَّ حَلْقَ الرأس خضوعٌ وعُبودية وذُل، ولهذا كان من تمام الحجِّ،
حتى إنه عند الشافعي ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به. فإنه وضعُ النواصى بين يدى
ربها خضوعا لعظمته، وتذللا لعِزَّته، وهو من أبلغ أنواع العبودية، ولهذا كانت
العربُ إذا أرادت إذلالَ الأسير منهم وعِتْقَه، حلقوا رأسه وأطلقُوه، فجاء شيوخُ
الضلال والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة، فأرادوا
مِن مريديهم أن يتعبَّدوا لهم، فزيَّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم، كما زيَّنوا لهم
السجودَ لهم، وسمَّوه بغير اسمه، وقالوا: هو وضعُ الرأس بين يدى الشيخ، ولعَمرُ
الله إنَّ السجود لله هو وضعُ الرأس بين يديه سبحانه، وزيَّنوا لهم أن ينذُروا لهم،
ويتوبُوا لهم، ويَحلِفُوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذُهم أربابا وآلهةً مِن دُونِ
الله، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوْا عِبَادا لِّى مِن
دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ
الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابا، أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ
أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[21].
وأشرفُ العبودية عبوديةُ الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخُ
والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها، وهو السجود،
وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوعَ، فإذا لقىَ بعضُهم بعضا ركع له كما يركع
المُصَلِّى لربه سواء، وأخذ الجبابرةُ منهم القيامَ، فيقوم الأحرار والعبيد على
رؤوسهم عبوديةً لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسولُ الله ﷺ عن هذه الأُمور الثلاثة على التفصيل،
فتعاطِيها مخالفةٌ صريحة له، فنَهى عن السجود لغير الله وقال: «لا ينبغي لأَحَدٍ
أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ». وأنكر على مُعَاذٍ لَمَّا سَجد له وقال: «مَهْ». وتحريمُ
هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويزُ مَن جَوَّزه لغير الله مُراغمَةٌ للهِ
ورسوله، وهو من أبلَغِ أنواع العبودية، فإذا جَوَّز هذا المُشرِكُ هذا النوعَ للبَشَر،
فقد جوَّز العبودية لغير اللهِ، وقد صَحَّ أنه قيل له: الرَّجُلُ يَلقَى أخاه
أَيَنْحَنِى له؟ قال: «لا». قيل: أَيَلْتَزِمُه ويُقَبِّلُهُ؟ قال: «لا». قيل:
أَيُصافِحُه؟ قال: «نعم».
وأيضا.. فالانحناءُ عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى:
{وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدا}[22] أي: منحنين، وإلا فلا يُمكن الدخول على الجباه، وصَحَّ عنه
النهىُ عن القيام، وهو جالس، كما تُعَظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضا، حتى منع مِن ذلك
في الصلاة، وأمرَهم إذا صَلَّى جالسا أن يُصَلُّوا جلوسا، وهم أصحاء لا عُذرَ لهم،
لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس، مع أنَّ قيامَهم لله، فكيف إذا كان القيامُ تعظيما
وعبوديةً لغيره سبحانه.
والمقصود.. أنَّ النفوس الجاهلة الضالة أسقطتْ عبوديةَ
الله سبحانه، وأشركت فيها مَن تُعَظِّمه مِن الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له،
وقامت بين يديه قيامَ الصلاة، وحلفت بغيره، ونذرَتْ لغيره، وحَلَقَتْ لغيره، وذبحت
لغيره، وطافت لِغير بيته، وعَظَّمته بالحب، والخوف، والرجاء، والطاعة، كما
يُعَظَّم الخالقُ، بل أشد، وسوَّتْ مَن تعبُده من المخلوقين بربِّ العالمين،
وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرُّسُل، وهم الذين بربهم يَعدِلون، وهم الذين يقولون
وهم في النار مع آلهتهم يختصمون: {تَاللهِ إن كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إذْ
نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[23]، وهم الذين قال الله فيهم:{وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ،
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّا للهِ}[24]وهذا كُلُّه مِن الشِّرك، والله لا يغفر أَنْ يُشْرَكَ به. فهذا فصل معترض
في هديه في حلق الرأس، ولعله أهمُّ مما قُصِدَ الكلام فيه.. والله الموفق.
فصول في هديه ﷺ في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية
المفردة والمركبة منها ومن الأدوية الطبيعية
فصل في هديه ﷺ في علاج المصاب بالعين
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ:
«العَيْنُ حَقٌ ولو كان شيء سَابَقَ القَدَرِ، لَسَبَقتْهُ العَيْنُ».
وفي صحيحه أيضا عن أنس: «أنَّ النبي ﷺ رخَّصَ في
الرُّقية مِن الحُمَةِ، والعَيْنِ والنَّملةِ»
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ:
«العَيْنُ حَقٌ».
وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان
يُؤمَرُ العائِنُ فيتوضَّأ، ثم يَغْتَسِلُ منه المَعِينُ.
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: أمرنى النبي ﷺ أو أَمَرَ أن
نَسْتَرْقِىَ من العَيْن.
وذكر الترمذي، من حديث سفيان بن عُيَينةَ، عن عمرو بن
دينار، عن عروة بن عامر، عن عُبيد بن رفاعة الزُّرَقىِّ، أنَّ أسماء بنت عُمَيْس
قالت: يا رسولَ الله ؛ إنَّ بَنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ، أفأسترْقي لهم؟ فقال:
«نعم فَلَوْ كان شيء يَسْبِقُ القضاءَ لسَبَقَتْهُ العَيْنُ» قال الترمذي: حديث حسن
صحيح.
وروى مالك رحمه الله، عن ابن شهابٍ، عن أبى أُمامةَ بن
سهل بن حنيفٍ، قال: رأى عامرُ بن ربيعة سَهْلَ بن حُنَيف يغتسِلُ، فقال: واللهِ ما
رأيتُ كاليوم ولا جِلْدَ مُخَبَّأة، قال: فلُبِطَ سَهْلٌ، فأتى رسولُ الله ﷺ
عامرا، فتَغَيَّظَ عليه، وقال: «عَلامَ يَقْتُلُ أحدُكُم أخاهُ؟ ألاَ بَرَّكْتَ؟
اغْتَسِلْ له»، فغسل له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقَيْه ورُكبتيه، وأطرافَ رِجليه،
وداخِلَة إزاره في قدح، ثم صبَّ عليه، فراحَ مع الناس.
وروى مالك رحمه الله أيضا عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل،
عن أبيه هذا الحديث، وقال فيه: «إنَّ العيْنَ حقٌ، توضَّأْ لهُ»، فتوضَّأ له.
وذكر عبد الرزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن ابن طاووس، عن أبيه
مرفوعا: «العَيْنُ حَقٌ، ولو كان شيء سَابَقَ القَدَرَ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ،
وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكمْ، فَلْيَغْتَسِلْ»، ووصْله صحيحٌ.
قال الزهري:
يُؤْمَر الرجل العائن بقدح، فيُدخِلُ كفَّه فيه،
فيتمضمض، ثم يَمُجّه في القدح، ويغسِلُ وجهه في القدح، ثم يُدخِل يده اليُسرى،
فيصُبُّ على رُكبته اليُمنى في القَدَح، ثم يُدخِلُ يده اليُمنى، فيصُبُّ على
رُكبته اليُسرى، ثم يَغْسِلُ داخِلَة إزارِهِ، ولا يُوضع القَدَحُ في الأرض، ثم
يُصَبُّ على رأس الرجل الذي تُصيبه العينُ من خلفه صبةً واحدةً.
والعَيْن عَيْنان: عَيْنٌ إنسية، وعَيْنٌ جِنِّية. فقد صح
عن أُمِّ سلمةَ، أنَّ النبي ﷺ رأى في بيتها جاريةً في وجهها سَفْعَةٌ، فقال:
«اسْتَْرقُوا لها، فإنَّ بها النَّظرَة».
قال الحسين بن مسعود الفرَّاء: وقوله «سَفْعَة» أي:
نظرة، يعنى من الجن، يقول: بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ الجن أنفذُ من أسِّنَة الرِماح.
ويُذكر عن جابر يرفعه: «إنَّ العَيْنَ لتُدْخِلُ الرجُلَ
القَبْرَ، والجَمَلَ القِدْرَ».
وعن أبى سعيد، أنَّ النبي ﷺ كان يتعوَّذ من الجان، ومن
عَيْن الإنسان.
فأبطلت طائفةٌ ممن قلَّ نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْرَ
العَيْن، وقالوا: إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقةَ لها، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسَّمعِ
والعقل، ومِن أغلظهم حِجابا، وأكثفِهم طِباعا، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح
والنفوسِ، وصفاتها وأفعالِها وتأثيراتها، وعقلاءُ الأُمم على اختلافِ مِللهم
ونِحلهم لا تدفَعُ أمر العَيْن، ولا تُنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العَيْن.
فقالت طائفة: إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة،
انبعث مِن عينه قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين، فيتضرر. قالوا: ولا يُستنكر هذا،
كما لا يُستنكر انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلكِ، وهذا أمر قد
اشتُهِرَ عن نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك، فكذلك العائنُ.
وقالت فِرقة أُخرى: لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ
الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ مرئية، فتتصل بالمَعِين، وتتخلل مسامَ جسمه، فيحصل له
الضررُ.
وقالت فِرقة أُخرى: قد أجرى الله العادةَ بخلق ما يشاء
من الضرر عند مقابلة عَيْنِ العائن لمن يَعِينه مِن غير أن يكون منه قوةٌ ولا سببٌ
ولا تأثيرٌ أصلا، وهذا مذهبُ منكرى الأسباب والقُوَى والتأثيرات في العالَم،
وهؤلاء قد سدُّوا على أنفسهم بابَ العِلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء
أجمعين.
ولا ريب أنَّ اللهَ سبحانه خلق في الأجسام والأرواح
قُوَى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواصَّ وكيفياتٍ مؤثرة، ولا يمكن لعاقل
إنكارُ تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مُشاهَدٌ محسوس، وأنت ترى الوجهَ كيف
يحمَرُّ حُمرةً شديدة إذا نظر إليه مَن يحتشِمُه ويَستحى منه، ويصفرُّ صُفرة شديدة
عند نظر مَن يخافُه إليه، وقد شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه، وهذا كُلُّه
بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعَيْن يُنسب الفعل إليها، وليست هي
الفاعلة، وإنما التأثيرُ للرَّوح. والأرواحُ مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها
وخواصها، فروحُ الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيِّنا. ولهذا أمر اللهُ سبحانه رسولَه
أن يستعيذَ به من شره. وتأثيرُ الحاسد في أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو
خارج عن حقيقةِ الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعَيْن، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة
تتكيَّفُ بكيفية خبيثة، وتُقَابِلُ المحسود، فتؤثِّرُ فيه بتلك الخاصِّية، وأشبهُ
الأشياء بهذا الأفعى، فإن السُّمَّ كامِنٌ فيها بالقوة، فإذا قابلتْ عدوَّها،
انبعثت منها قوة غضبية، وتكيَّفتْ بكيفية خبَيثةٍ مؤذية، فمنها ما تشتدُّ كيفيتُها
وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر في طمس البصر، كما قال النبي ﷺ في
الأَبْتَر، وذى الطُّفْيَتَيْن مِنَ الحيَّات: «إنَّهمَا يَلتَمِسَان البَصَرَ،
ويُسقطان الحَبَلَ».
ومنها: ما تُؤثر في الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من
غير اتصال به، لشدة خُبْثِ تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثيرُ غيرُ
موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنُّه مَن قلَّ علمُه ومعرفته بالطبيعة
والشريعة، بل التأثيرُ يكون تارةً بالاتصال، وتارةً بالمقابلة، وتارةً بالرؤية،
وتارةً بتوجه الرَّوح نحوَ مَن يُؤثر فيه، وتارةً بالأدعية والرُّقَى والتعوُّذات،
وتارةً بالوهم والتخيُّل، ونفسُ العائن لا يتوقفُ تأثيرُها على الرؤية، بل قد يكون
أعمى، فيُوصف له الشيء، فتؤثِّرُ نفسه فيه، وإن لم يره، وكثيرٌ من العائنين يُؤثر في
المَعِين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه:{وَإن يَكَادُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ} [25]وقال: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ *وَمِن
شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ
حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } فكلُّ عائنٌ حاسدٌ، وليس كلُّ حاسد عائنا
فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن، كانت الاستعاذةُ منه
استعاذةً من العائن، وهى سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين
تُصيبُه تارةً وتُخطئه تارة، فإن صادفْته مكشوفا لا وِقاية عليه، أثَّرتْ فيه، ولا
بُدَّ، وإن صادفته حَذِرا شاكىَ السِّلاح لا منفذَ فيهِ للسهام، لم تُؤثر فيه، وربما
رُدَّتْ السهامُ على صاحبها، وهذا بمثابة الرمى الحِسِّىّ سواء، فهذا مِن النفوس
والأرواح، وذاك مِن الأجسام والأشباح. وأصلُه مِن إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه
كيفيةُ نفسِه الخبيثة، ثم تستعينُ على تنفيذ سُمِّها بنظرة إلى المَعِين، وقد
يَعِينُ الرجلُ نفسَه، وقد يَعينُ بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكونُ من
النوع الإنسانى، وقد قال أصحابُنا وغيرُهم من الفقهاء: إنَّ مَن عُرِفَ بذلك،
حبَسه الإمامُ، وأجرَى له ما يُنفِقُ عليه إلى الموت، وهذا هو الصوابُ قطعا.
فصل في أنواع المقصود بالعلاج النبوي لهذه العلَة
والمقصودُ:
العلاجُ النبوي لهذه العِلَّة، وهو أنواعٌ، وقد روى أبو
داود في سننه عن سهل بن حُنَيفٍ، قال: مررْنا بَسيْلٍ، فدخلتُ، فاغتسلتُ فيه،
فخرجتُ محموما، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله ﷺ، فقال: «مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ».
قال: فقلتُ: يا سيدى ؛ والرُّقَى صالحة؟ فقال: «لا رُقيةَ إلا في نَفْسٍ، أو
حُمَةٍ، أو لَدْغَةٍ».
والنَّفْس: العَيْن، يقال: أصابت فلانا نفسٌ، أي: عَيْن.
والنافِس: العائن. واللَّدْغة بدال مهملة وغين معجمة وهى ضربةُ العقرب ونحوها.
فمن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة
المعوِّذتين، وفاتحةِ الكتابِ، وآيةِ الكُرسى، ومنها التعوذاتُ النبوية.
نحو: «أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق».
ونحو: «أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ، مِن كُلِّ شيطانٍ
وهامَّةٍ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ».
ونحو:
«أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ التى لا
يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ ولا فاجرٌ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرَأ، ومِن شَرِّ ما
ينزلُ من السماء، ومِن شَرِّ ما يَعرُجُ فيها، ومِن شَرِّ ما ذرأ في الأرض، ومِن
شَرِّ ما يخرُج مِنها، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنهار، ومِن شَرِّ طَوَارق
الليلِ، إلا طارقا يَطرُق بخير يا رحمن».
ومنها: «أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ مِن غضبه
وعِقَابه، ومِن شرِّ عباده، ومِن هَمَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونِ».
ومنها:
«اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بوجْهِكَ الكريم، وكلماتِك
التامَّاتِ من شرِّ ما أنت آخِذٌ بناصيته، اللَّهُمَّ أنتَ تكشِفُ المأثَمَ
والمَغْرَمَ، اللَّهُمَّ إنه لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ، ولا يُخلَفُ وعدُك، سبحانَك وبحمدِك».
ومنها: «أَعُوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذي لا شيء أعظمُ
منه، وبكلماتِه التامَّات التى لا يُجاوزُِهن بَرٌ ولا فاجرٌ، وأسماءِ الله الحُسْنَى،
ما علمتُ منها وما لم أعلم، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرأ، ومن شَرِّ كُلِّ ذي شرٍّ
لا أُطيق شرَّه، ومِن شَرِّ كُلِّ ذي شَرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيته، إنَّ ربِّى على
صِراط مستقيم».
ومنها: «اللَّهُمَّ أنت ربِّى لا إله إلا أنتَ، عليك
توكلتُ، وأنتَ ربُّ العرشِ العظيم، ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، لا حَوْلَ
ولا قُوَّة إلا بالله، أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شيء قديرٌ، وأنَّ الله قد أحاط
بكل شيء علما، وأحصَى كُلَّ شيء عددا، اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسى،
وشَرِّ الشيطانِ وشِرْكه، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربِّى
على صِراط مستقيم».
وإن شاء قال: «تحصَّنتُ باللهِ الذي لا إله إلا هُوَ،
إلهى وإله كُلِّ شيء، واعتصمتُ بربى وربِّ كُلِّ شيء، وتوكلتُ على الحىِّ الذي لا
يموتُ، واستَدْفَعتُ الشرَّ بلاحَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، حسبىَ اللهُ ونِعْمَ
الوكيلُ، حسبىَ الربُّ مِن العباد، حسبىَ الخَالِقُ من المخلوق، حسبىَ الرازقُ
مِنَ المرزوق، حسبىَ الذي هو حسبى، حسبىَ الذي بيده ملكوتُ كُلِّ شيء، وهو يُجيرُ
ولا يُجَارُ عليه، حسبىَ الله وكَفَى، سَمِعَ الله لمنْ دعا، ليس وراء اللهِ
مرمَى، حسبىَ الله لا إله إلا هُوَ، عليه توكلتُ، وهُوَ ربُّ العرشِ العظيم».
ومَن جرَّب هذه الدعوات والعُوَذَ، عَرَفَ مِقدار
منفعتها، وشِدَّةَ الحاجةِ إليها، وهى تمنعُ وصول أثر العائن، وتدفعُه بعد وصوله
بحسب قوة إيمان قائلها، وقوةِ نفسه، واستعداده، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه، فإنها
سلاح، والسلاحُ بضاربه.
فصل في ما يدفع به إصابة العين
وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين،
فليدفع شرِّها بقوله: اللَّهُمَّ بَارِكْ عليه، كما قال النبي ﷺ لعامر بن ربيعة لما
عان سهل بن حُنيف: «ألا برَّكْتَ» أي: قلتَ: اللَّهُمَّ بارِكْ عليه.
ومما يُدفع به إصابةَ العَيْن قولُ: «ما شاء الله لا
قُوَّة إلا بالله»، روى هشام ابن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئا يُعجِبُه،
أو دخل حائطا مِن حِيطانه، قال: «ما شاء الله، لا قُوَّة إلا بالله».
ومنها رُقْيَةُ جِبريل عليه السَّلامُ للنبي ﷺ التى
رواها مسلم في صحيحه: «باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شيء يُؤذيكَ، مِنْ شَرِّ
كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حَاسدٍ اللهُ يَشفِيكَ، باسمِ اللهِ أرْقِيكَ».
ورأى جماعة من السَّلَف أن تُكتب له الآياتُ مِن القرآن،
ثم يشربَها. قال مجاهد: لا بأس أن يكتُبَ القرآنَ، ويغسِلَه، وَيْسقِيَه المريضَ،
ومثلُه عن أبى قِلابَةَ. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يُكَتبَ لامرأة تَعَسَّرَ
عليها وِلادُها أثرٌ من القرآن، ثم يُغسل وتُسقى. وقال أيوب: رأيتُ أبا قِلابَةَ
كتب كتابا من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلا كان به وجعٌ.
فصل في أمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره
ومنها:
أن يُؤمر العائِنُ بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ
إزاره، وفيه قولان ؛ أحدهما: أنه فرجُه. والثاني: أنه طرفُ إزاره الداخل الذي يلى
جسدَه من الجانب الأيمن، ثم يُصَبُّ على رأس المَعِين مِن خلفه بغتة، وهذا مما لا ينالُه
علاج الأطباء، ولا ينتفِعُ به مَن أنكره، أو سَخِرَ منه، أو شَكَّ فيه، أو فعله
مجرِّبا لا يعتقد أنَّ ذلك ينفعُه.
وإذا كان في الطبيعة خواصٌ لا تَعْرِفُ الأطباءُ
عِلَلَها ألبتةَ، بل هي عندهم خارجةٌ عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصِّية، فما الذي
يُنكره زنادقتهم وجهلتُهم من الخواص الشرعية، هذا مع أنَّ في المعالجة بهذا
الاستغسال ما تشهدُ له العقولُ الصحيحة، وتُقِرُّ لمناسبته، فاعلم أنَّ تِرياق
سُمِّ الحيَّة في لحمها، وأنَّ علاجَ تأثير النفس الغضَبية في تسكين غضبها، وإطفاء
ناره بوضع يَدِكَ عليه، والمسح عليه، وتسكينِ غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شُعلة من
نار، وقد أراد أن يَقذِفَك بها، فصبِبِتَ عليها الماء، وهى في يده حتى طُفئتْ،
ولذلك أُمِرَ العائِنُ أن يقول: «اللَّهُمَّ بارِكْ عَلَيْه» ليدفع تلك الكيفية الخبيثة
بالدعاء الذي هو إحسانٌ إلى المَعِين، فإنَّ دواء الشيء بضِدِّه. ولما كانت هذه
الكيفيةُ الخبيثة تظهر في المواضِع الرقيقة من الجسد، لأنها تطلب النفوذَ، فلا تجد
أرقَّ مِن المغابن، وداخِلَةِ الإزار، ولا سِيَّما إن كان كنايةً عن الفَرْج، فإذا
غُسِلَتْ بالماء، بطل تأثيرها وعملها، وأيضا فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها
اختصاص.
والمقصود: أنَّ غسلها بالماء يُطفىء تلك النارية،
ويَذهبُ بتلك السُّمِّية.
وفيه أمر آخر، وهو وُصول أثرِ الغسل إلى القلب من أرقِّ
المواضع وأسرعها تنفيذا، فيُطفىء تلك النارية والسُّمِّية بالماء، فيشفى المَعِين،
وهذا كما أنَّ ذواتِ السموم إذا قُتِلت بعد لَسعها، خَفَّ أثرُ اللسعة عن الملسوع،
ووَجد راحة، فإن أنفسَها تمدُّ أذاها بعد لَسعها، وتُوصِله إلى الملسوع. فإذا قُتِلَتْ،
خَفَّ الألم، وهذا مُشَاهَد. وإن كان من أسبابه فرحُ المَلسوع، واشتفاءُ نفسه بقتل
عدوِّه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه.
وبالجملة.. غسل العائن يُذهِبُ تلك الكيفية التى ظهرت
منه، وإنما ينفع غسلُه عند تكيُّفِ نفسه بتلك الكيفية.
فإن قيل: فقد ظهرت مناسبةُ الغسل، فما مناسبةُ صبِّ ذلك
الماء على المَعِين؟
قيل: هو في غاية المناسبة، فإنَّ ذلك الماء ماء طُفىء به تلك
النارية، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طُفئت به النارية القائمة
بالفاعِل طُفئت به، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائِن، والماءُ الذي
يُطفأ به الحديدُ يدخُل في أدوية عِدَّة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذي طُفىء به
نارية العائِن، لا يُستنكر أن يدخل في دواء يُناسب هذا الداء.
وبالجملة.. فطب الطبائعية وعلاجُهم بالنسبة إلى العلاج
النبوي، كطب الطُّرقية بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإنَّ التفاوتَ الذي بينهم وبين الأنبياء
أعظمُ، وأعظمُ من التفاوت الذي بينهم وبين الطُّرقية بما لا يُدرِكُ الإنسان
مقداره، فقد ظهر لك عقدُ الإخاء الذي بين الحِكمة والشرع، وعدمُ مناقضة أحدهما
للآخر، واللهُ يهدى مَن يشاء إلى الصواب، ويفتحُ لمن أدام قرعَ باب التوفيق منه
كُلَّ باب، وله النعمة السابغة، والحُجَّة البالغة.
فصل في ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه
ومن علاج ذلك أيضا والاحتراز منه سترُ محاسن مَن يُخاف
عليه العَيْن بما يردُّها عنه، كما ذكر البغوىُّ في كتاب «شرح السُّنَّة»: أنَّ
عثمان رضي الله عنه رأى صبيا مليحا، فقال: دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلا تُصيبه
العَيْن، ثم قال في تفسيره: ومعنى «دسِّمُوا نونته» أي: سَوِّدُوا نونته، والنونة: النُّقرة التى
تكون في ذقن الصبىِّ الصغير.
وقال الخطابي في «غريب الحديث» له عن عثمان: إنه رأى
صبيا تأخذه العَيْن، فقال: دسِّموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه،
فقال: أراد بالنونة: النُّقرة التى في ذقنه. والتدسيمُ: التسويد. أراد: سَوِّدُوا
ذلك الموضع من ذقنه، ليرد العَيْن. قال ومن هذا حديثُ عائشةَ ان رسول الله ﷺ خطب
ذاتَ يومٍ، وعلى رأسهِ عِمامةٌ دَسْماء أي: سوداء أراد الاستشهاد على اللَّفظة،
ومن هذا أخذ الشاعرُ قَوله:
مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى عَيبٍ يُوَقِّيهِ
مِنَ الْعَيْنِ
فصل في الرقى التى ترد العين
ومن الرُّقَى التى تردُّ العَيْن ما ذُكر عن أبى عبد
الله السَّاجى، أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارِهَةٍ، وكان في
الرفقة رجل عائن، قلَّما نظر إلى شيء إلا أتلفه، قيل لأبى عبد الله: احفَظْ
ناقَتكَ مِنَ العائِن، فقال: ليس له إلى ناقتى سبيل، فأُخْبِرَ العائِنُ بقوله، فتَحيَّنَ
غَيبة أبى عبد الله، فجاء إلى رَحْله، فنَظر إلى الناقةَ، فاضطربتْ وسقطت، فجاء
أبو عبد الله، فأُخْبِرَ أنَّ العائِنَ قد عانها، وهى كما ترى، فقال: دُلُّونى
عليه. فدُلَّ، فوقف عليه، وقال: بسمِ اللهِ، حَبْسٌ حابسٌ، وحَجَرٌ يابِسٌ،
وشِهابٌ قابِسٌ، ردَّت عين العائن عليه، وعلى أحبِّ الناس إليه، {فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ
* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ
إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئا وَهُوَ حَسِيرٌ}[26] فخرجتْ حَدَقَتا العائنِ، وقامت الناقةُ لا بأسَ بها.
فصل في هديه ﷺ في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
روى أبو داود في سننه: من حديث أبى الدرداء، قال: سمعتُ
رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «مَن اشتكى منكم شيئا، أو اشتكاهُ أخٌ له فلْيقُلْ: رَبَّنا
اللهَ الذي في السَّماء، تقدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ في السَّماء والأرضِ كما
رَحْمَتُك في السَّماءِ، فاجعل رحمتكَ في الأرض، واغفر لنا حُوْبَنَا وخطايانا
أنتَ ربُّ الطَّيِّبِين، أنْزِلْ رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوَجَع،
فيَبْرأ بإذْنِ اللهِ».
وفي صحيح مسلم عن أبى سعيد الخُدْرِى، أنَّ جبريلَ عليه
السلام أتى النبي ﷺ فقال: يا محمدُ ؛ أشتكيْتَ؟ فقال: «نعم». فقال جبريلُ عليه السلام:
«باسمِ اللهِ أَرقيكَ مِن كُلِّ شيء يُؤذيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نفْسٍ أو عَيْن
حاسدٍ اللهُ يَشفيكَ، باسمِ اللهِ أرقيكَ».
فإن قيل: فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود: «لا
رُقيةَ إلا من عَيْنٍ، أو حُمَةٍ»، والحُمَةُ: ذوات السُّموم كلها؟
فالجواب:
أنه ﷺ لم يُرِدْ به نفىَ جواز الرُّقية في غيرها، بل
المرادُ به: لا رُقية أولى وأنفعُ منها في العَيْن والحُمَة، ويدل عليه سياقُ
الحديث، فإنَّ سهل ابن حُنيف قال له لما أصابته العَيْن: أوَ في الرُّقَى خير؟
فقال: «لا رُقيةَ إلا في نَفْسٍ أو حُمَةٍ» ويدل عليه سائرُ أحاديث الرُّقَى العامة
والخاصة، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال: قال رسولُ الله ﷺ: «لا رُقْيَةَ إلا
مِن عَيْنٍ، أو حُمَةٍ، أو دَمٍ يَرْقأُ».
وفي صحيح مسلم عنه أيضا:«رخَّص رسولُ اللهِ ﷺ في
الرُّقية من العَيْن والحُمَةِ والنَّمْلَةِ».
فصل في هديه ﷺ في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدرى، قال:
«انْطلَقَ نَفَرٌ من أصحابِ النبي ﷺ في سفرةٍ سافرُوها حتى نزلوا على حىٍّ مِن
أحياءِ العرب، فاسْتَضَافوهم، فأبَوْا أن يُضَيِّفُوهُم، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك
الحىِّ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شيء لا يَنْفَعُه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتُم هؤلاءِ الرَّهطَ
الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء. فأتوهم، فقالوا: يا أيُّهَا الرَّهطُ ؛
إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ، وسَعينا له بكُلِّ شيء لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أحدٍ
منكم من شيء؟ فقال بعضُهم: نعم واللهِ إنى لأَرْقى، ولكن اسْتَضَفْناكُمْ، فلم
تَضيِّفُونَا، فما أنا بَرَاقٍ حتى تَجْعَلُوا لنا جُعْلا، فصالَحُوهم على قطيعٍ
من الغنم، فانطلَقَ يَتْفُل عليه، ويقرأ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }،
فكأنما أُنشِطَ من عِقَالٍ، فانطلق يمشى وما به قَلَبَةٌ، قال: فأوفَوْهُم
جُعْلَهُم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضُهم: اقتسِمُوا، فقال الذي رَقَى: لا تفعلوا
حتى نأتىَ رسولَ اللهِ ﷺ، فنذكُرَ له الذي كان، فننظُرَ ما يأمرُنا، فَقَدِمُوا على
رسول الله ﷺ، فذكروا له ذلك، فقال: «وما يُدْريكَ أنَّها رُقْيَةٌ»؟، ثم قال: «قد
أصَبْتُم، اقسِمُوا واضْرِبوا لى مَعَكُم سهما».
وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث على قال: قال رسول
الله ﷺ: «خَيْرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ».
ومن المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ
مُجرَّبة، فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين، الذي فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ
على خلقه الذي هو الشفاءُ التام، والعِصْمةُ النافعة، والنورُ الهادى، والرحمة
العامة، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته. قال تعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[27]. و«مِن» ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصَحُّ القولين،
كقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرَا عَظِيما}[28] وكُلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظنُّ
بفاتحة الكتاب التى لم يُنزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في
الزَّبور مِثلُها، المتضمنة لجميع معانى كتب الله، المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب
تعالى ومجامعها، وهى: الله، والرَّب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكرِ التوحيدين:
توحيدِ الربوبية، وتوحيدِ الإلهية، وذكر الافتقار إلى الربِّ سُبحانه في طلبِ الإعانة
وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعِهِ
وأفرَضِه، وما العبادُ أحوج شيء إليه، وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم، المتضمن
كمالَ معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، والاستقامة
عليه إلى الممات، ويتضمن ذِكْر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ عليه بمعرفة
الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له،
وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء،
والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكيةِ النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله
وإحسانه، والرَّدِّ على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير
«مدارج السالكين» في شرحها. وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعضُ شأنها، أن يُستشفى بها من
الأدواء، ويُرقَى بها اللَّديغُ.
وبالجملة..
فما تضمنته الفاتحةُ مِن إخلاص العبودية والثناء على
اللهِ، وتفويضِ الأمر كُلِّه إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع
النِّعَم كُلِّها، وهى الهداية التى تجلبُ النِّعَم، وتدفَعُ النِّقَم، من أعظم
الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إنَّ موضع الرُّقْيَة منها:{إيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[29]، ولا ريبَ أنَّ هاتين الكلمتين من أقوى
أجزاء هذا الدواء، فإنَّ فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة،
والافتقارِ والطلبِ، والجمع بين أعلى الغايات، وهى عبادةُ الربِّ وحده، وأشرف
الوسائل وهى الاستعانةُ به على عبادته ما ليس في غيرها، ولقد مرَّ بى وقت بمكة
سَقِمْتُ فيه، وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربةً من ماء
زمزم، وأقرؤها عليها مرارا، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التام، ثم صِرتُ أعتمد ذلك
عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع.
فصل في أن لتأثير الرقى بالفاتحة وغيرها سرا بديعا في
علاج ذوات السموم
وفي تأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها في علاج ذواتِ
السُّموم سِرٌ بديع، فإنَّ ذواتِ السموم أثَّرت بكيفيات نفوسِها الخبيثة، كما
تقدَّم، وسِلاحها حُماتها التى تلدَغُ بها، وهى لا تلدغ حتى تغضَب، فإذا غضبت، ثار
فيها السُّمُّ، فتقذفه بآلتها، وقد جعل اللهُ سبحانه لكل داءٍ دواءً، ولكل شيء ضِدا،
ونفس الراقى تفعلُ في نفس المرقى، فيقعُ بين نفسيهما فعلٌ وانفعالٌ، كما يقع بين
الداء والدواء، فتقوى نفسُ الراقى وقُوَّته بالرُّقية على ذلك الداء، فيدفعُه بإذن
اللهِ، ومدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء
والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانى، والطبيعي، وفى
النَّفْث والتَّفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرُّقية،
والذِكْر والدعاء، فإنَّ الرُّقية تخرُج مِن قلب الراقى وفمه، فإذا صاحبها شيء من
أجزاء باطنه من الرِّيق والهواء والنَّفَس، كانت أتمَّ تأثيرا، وأقوى فعلا ونفوذا،
ويحصُل بالازدواج بينهما كيفيةٌ مؤثرة شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة.. فنفْسُ الراقى تُقابل تلك النفوس الخبيثة،
وتزيدُ بكيفية نفسه، وتستعين بالرُّقية وبالنفثِ على إزالة ذلك الأثر، وكلَّما
كانت كيفيةُ نَفَس الراقى أقوى، كانت الرُّقيةُ أتمَّ، واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة
تلك النفوسِ الرديئة بلسعها.
وفي النفث سِرٌ آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة
والخبيثة، ولهذا تفعلُه السّحَرةُ كما يفعلَهُ أهلُ الإيمان. قال تعالى: {وَمِن
شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في الْعُقَدِ}، وذلك لأن النفْس تتكيَّفُ بكيفية الغضب
والمحاربة، وتُرسِلُ أنفاسَها سِهاما لها، وتمدُّها بالنفْث والتفْل الذي معه شيء
مِن الرِّيق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةً بيِّنةً، وإن
لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسِّحْر، فيعمل
ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السُّفلية الخبيثة، فتقابِلُها الرَّوح الزكية الطيبة
بكيفية الدفع والتكلم بالرُّقية، وتستعينُ بالنفث، فأيُّهُما قَوِىَ كان الحكمُ
له، ومقابلةُ الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام،
ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصلُ في المحاربة والتقابلِ للأرواح والأجسام آلتها
وجندها، ولكن مَن غلب عليه الحِسُّ لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح وأفعالِهَا
وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِهِ من عالَم الأرواح،
وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود.. أنَّ الرَّوح إذا كانت قويةً وتكيَّفتْ
بمعانى الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفْل، قابلت ذلك الأثَر الذي حصل من النفوس
الخبيثة، فأزالته.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في علاج لدغة العقرب بالرقية
روى ابن أبى شَيْبَةَ في «مسنده»، من حديث عبد الله بن
مسعود، قال: بينا رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّى، إذ سجد فَلَدَغَتْه عقربٌ في أُصبعه،
فانصرفَ رسولُ اللهِ ﷺ وقال: «لَعَنَ اللهُ العَقْرَبَ ما تَدَعُ نبيّا ولا غَيْرَه»، قال:
ثُمَّ دعا بإناءٍ فيه ماء ومِلح، فَجَعَلَ يَضَعُ موضِعَ اللَّدغة في الماء
والمِلحِ، ويقرأُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، والمُعَوِّذَتَيْن} حتى سكنتْ.
ففي هذا الحديث العلاجُ بالدواء المركَّب مِنَ الأمرين:
الطبيعي والإلهىِّ، فإنَّ في سورة الإخلاص مِن كمال التوحيد العِلمى الاعتقادى،
وإثبات الأحَدِيَّة للهِ، المستلزِمة نفىَ كُلِّ شركة عنه، وإثباتِ الصَّمديَّةِ المستلزمةِ
لإثبات كُلِّ كمال له مع كونِ الخلائق تَصمُدُ إليه في حوائجها، أي: تقصِدُه
الخليقةُ، وتتوجه إليه، عُلويُّها وسُفليُّها، ونفى الوالد والولد، والكُفْءِ عنه
المتضمن لنفى الأصل، والفرع والنظير، والمماثل مما اختصَّت به وصارت تعدِلُ ثُلُثَ
القرآن، ففي اسمه «الصمد» إثباتُ كل الكمال، وفى نفى الكُفْءِ التنزيهُ عن الشبيه
والمثال. وفى «الأحد» نفىُ كُلِّ شريك لذى الجلال، وهذه الأُصول الثلاثة هي مجامعُ
التوحيد.
وفي المعوِّذتين الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلا،
فإنَّ الاستعاذَة مِن شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه، سواء أكان في
الأجسام أو الأرواح، والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل، وآيتِهِ وهو
القمر إذا غاب، تتضمن الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التى
كان نورُ النهار يحولُ بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمرُ،
انتشرت وعاثت.
والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات في العُقد تتضمن
الاستعاذة من شَرِّ السواحر وسِحرهن.
والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن
النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها.
والسورةُ الثانية: تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين
الإنس والجن، فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيم في
الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها، ولهذا أوصى النبي ﷺ عُقبةَ بن عامر
بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ، ذكره الترمذي في جامعه وفى هذا سِرٌ عظيم في
استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة. وقال: ما تَعَوَّذ المتعوِّذون بمثلهما.
وقد ذُكر أنه ﷺ سُحِرَ في إحدى عشرةَ عُقدة، وأنَّ جبريلَ نزل عليه بهما، فجعَلَ كُلَّما
قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها، وكأنما أُنْشِطَ من
عِقَال.
وأما العلاج الطبيعي فيه، فإنَّ في المِلح نفعا لكثير من
السُّموم، ولا سِيَّما لدغة العقرب، قال صاحب القانون: يُضمَّد به مع بذر الكتان للسع العقرب،
وذكره غيرُه أيضا. وفى المِلح من القوة الجاذبة المحلِّلة ما يَجذِبُ السُّموم
ويُحللها، ولَمَّا كان في لسعها قوةٌ نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين
الماءِ المبرد لنار اللَّسعة، والمِلح الذي فيه جذبٌ وإخراج، وهذا أتم ما يكون من
العلاج وأيسره وأسهله، وفيه تنبيه على أنَّ علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج..
والله أعلم.
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبى هُريرة قال: جاء رجلٌ إلى
النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله ؛ ما لقيتُ مِنْ عقربٍ لَدَغْتنى البارحةَ فقال: «أما
لو قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما
خَلَقَ، لم تَضُرَّك».
واعلم أنَّ الأدوية الطبيعية الإلهية تنفعُ مِن الداء
بعد حصوله، وتمنَعُ من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعا مضرا، وإن كان مؤذيا، والأدوية
الطبيعية إنما تنفعُ، بعد حصول الداء، فالتعوُّذاتُ والأذكار، إما أن تمنعَ وقوعَ
هذه الأسباب، وإما أن تحولَ بينها وبين كمالِ تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته
وضعفه، فالرُّقَى والعُوَذ تُسْتَعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض، أما الأول: فكما
في الصحيحين من حديث عائشة كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا أوى إلى فراشِهِ نَفَثَ في كَفَّيْهِ:
{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ والمُعَوِّذَتَيْن. ثم يمسحُ بهما وجهه، وما بلغت يدُه من
جسده}.
وكما في حديث عُوذة أبى الدرداء المرفوع: «اللَّهُمَّ
أنت رَبِّى لا إله إلا أنت عليكَ تَوَكَّلْتُ وأنتَ رَبُّ العَرْشِ العظيم»، وقد
تقدَّم وفيه: «مَن قالها أوَّل نهارِهِ لم تُصِبْهُ مُصيبة حتى يُمسى، ومَن قالها
آخر نهارِهِ لم تُصِبْه مُصيبةٌ حتى يُصْبِح».
وكما في الصحيحين: «مَن قَرَأَ الآيَتَيْن مِن آخرِ
سُورةِ البقرةِ في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ».
وكما في صحيح مسلم عن النبي ﷺ: «مَن نَزَلَ مَنْزِلا
فقال: أَعُوذُ بكلمات ِاللهِ التَّامَّاتِ مِن شرَِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّهُ شيء
حَتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلهِ ذلِكَ».
وكما في سنن أبي داود أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان في السفر
يقول باللَّيل:«يا أرضُ ؛ رَبِّى ورَبُّكِ اللهُ، أَعُوذُ باللهِ مِن شَرِّكِ
وشَرِّ ما فِيكِ، وشَرِّ ما يَدُبُّ عليكِ، أعوذُ باللهِ مِن أسَدٍ وأسْوَدٍ، ومِن
الحَيَّةِ والعقربِ، ومِن ساكنِ البَلَدِ، ومن والدٍ وما وَلَدَ».
وأما الثاني: فكما تقدَّم من الرُّقية بالفاتحة،
والرُّقية للعقرب وغيرها مما يأتى.
فصل في هديه ﷺ في رقية النملة
قد تقدَّم من حديث أنس الذي في صحيح مسلم أنه ﷺ «رخَّص
في الرُّقْيَةِ مِنَ الحُمَةِ والعَيْنِ والنَّمْلَةِ».
وفي سنن أبي داود عن الشِّفَاء بنت عبد الله، قالت: دخل
علىَّ رسول الله ﷺ وأنا عِند حَفْصَة، فقال: «ألا تُعَلِّمينَ هذه رُقية
النَّمْلةِ كما عَلَّمْتِيها الكتابةَ».
النَّمْلَة: قُروح تخرج في الجنبين، وهو داء معروف،
وسُمِّى نملةً، لأن صاحِبَه يُحس في مكانه كأنَّ نملة تَدِبُّ عليه وَتعضُّه،
وأصنافها ثلاثة، قال ابن قتيبة وغيرُه: كان المجوسُ يزعمون أنَّ ولد الرجل من
أُخته إذا خُطَّ على النَّملَةِ، شُفِىَ صاحبها، ومنه قول الشاعر:
وَلاَ عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَرٍ كِرامٍ
وَأَنَّا لاَ نَخُطُّ عَلَى النَّمْلِ
وروى الخَلاَّل: أنَّ الشِّفَاء بنتَ عبد الله كانت
تَرقى في الجاهلية من النَّمْلَة، فلمَّا هاجرت إلى النبي ﷺ وكانت قد بايعته بمكة،
قالت: يا رسول الله ؛ إنِّى كنت أرقى في الجاهلية من النَّمْلَة، وإنى أُريدُ أن أعْرِضَهَا
عليكَ، فعرضت عليه فقالت: بسم اللهِ ضَلَّت حتى تعود مِن أفواهها، ولا تَضُرُّ
أحدا، اللَّهُمَّ اكشف البأسَ ربَّ الناسِ، قال: ترقى بِهَا عَلَى عُودٍ سبعَ
مَرات، وتقصِدُ مَكانا نظيفا، وَتَدْلُكُهُ على حجر بخَلِّ خَمرٍ حاذق، وتَطْلِيه
على النَّمْلَةِ. وفى الحديث: دليلٌ على جواز تعليم النساء الكتابة.
فصل في هديه ﷺ في رقية الحية
قد تقدَّم قوله: «لا رُقْيَةَ إلا في عَيْنٍ، أو
حُمَةٍ»، الحُمَة: بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها.
وفي سنن ابن ماجه من حديث عائشة: «رخَّص رسولُ اللهِ ﷺ
في الرُّقْيَة من الحيَّةِ والعقرب».
ويُذكر عن ابن شهاب الزهري، قال: لَدَغَ بعض أصحاب رسول
الله ﷺ حَيَّةٌ، فقال النبي صَلى الله عليه وسلم: «هَلْ مِن رَاقٍ»؟ فقالوا: يا
رسول الله ؛ إن آل حزم كانوا يَرْقُون رُقيةَ الحَيَّةِ، فلما نَهَيْتَ عن
الرُّقَى تركوها، فقال: «ادْعُو عُمارة بن حزم» فدعوه، فعرضَ عليه رُقاه، فقال:
«لا بأسَ بها» فأذن له فيها فرقاه.
فصل في هديه ﷺ في رقية القرحة والجرح
أخرجا في الصحيحين عن عائشة قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا
اشتكى الإنسانُ أو كانت به قَرحةٌ أو جُرحٌ، قال بأصبعه: هكذا ووضع سفيانُ
سبَّابَتَهُ بالأرض، ثم رفعها وقال: «بسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أرضِنا بِرِيقَةِ
بعضِنا، يُشْفَى سَقِيمُنا بإذنِ رَبِّنا».
هذا من العلاج الميسر النافع المركَّب، وهى معالجة لطيفة
يُعالج بها القُروحُ والجِراحات الطرية، لا سِيَّما عند عدم غيرِها من الأدوية إذ
كانت موجودة بكل أرض، وقد عُلِمَ أنَّ طبيعة التراب الخالص باردةٌ يابسة مجفِّفةٌ
لرطوبات القروح والجراحات التى تمنع الطبيعةُ من جودة فعلها، وسرعةِ اندمالها، لا
سِيَّما في البلاد الحارَّة، وأصحاب الأمزجة الحارَّة، فإنَّ القُروح والجِراحات
يتبعُها في أكثر الأمر سوءُ مزاجٍ حارٍ، فيجتمِعُ حرارة البلد والمزاجُ والجِراحُ،
وطبيعةُ التراب الخالص باردة يابسة أشدُّ مِن برودة جميع الأدوية المفردة الباردة،
فتُقَابِلُ برودةُ الترابِ حرارةَ المرض، لا سِيَّما إن كان الترابُ قد غُسِلَ
وجُفِّفَ، ويتبعها أيضا كثرةُ الرطوبات الرديئة، والسيلان، والتُّراب مُجَفِفٌ
لها، مُزِيلٌ لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها، ويحصل به مع
ذلك تعديلُ مزاج العضو العليل، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة، ودفعت
عنه الألم بإذن الله.
ومعنى الحديث: أنه يأخذ مِن ريق نفسه على أصبعه السبابة،
ثم يضعها على التراب، فيعلَق بها منه شيء، فيمسح به على الجُرح، ويقول هذا الكلام
لما فيه من بركة ذكر اسم الله، وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، فينضَمُّ أحدُ العلاجين
إلى الآخر، فَيقْوَى التأثير.
وهل المراد بقوله: «تُرْبَةُ أَرضِنا» جميع الأرض أو
أرضُ المدينة خاصة؟ فيه قولان، ولا ريبَ أنَّ مِن التُربة ما تكون فيه خاصية ينفع
بخاصيته من أدواءٍ كثيرة، ويشفى بها أسقاما رديئة.
قال جالينوس: رأيتُ بالإسكندرية مَطحُولين، ومُستسقين
كثيرا، يستعملون طين مصر، ويطلُون به على سُوقهم، وأفخاذهم، وسواعدهم، وظهورهم، وأضلاعهم،
فينتفعون به منفعة بَيِّنة. قال: وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام
العفنة والمترهِّلة الرخوة، قال: وإنِّى لأعرفُ قوما ترهَّلَت أبدانُهم كُلُّها من
كثرة استفراغ الدم من أسفل، انتفعوا بهذا الطين نفعا بَيِّنا، وقوما آخرين شَفَوْا
به أوجاعا مزمنة كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنا شديدا، فبرأت وذهبت أصلا.
وقال صاحب الكتاب المسيحي: قُوَّة الطين المجلوب من «كنوس» وهى
جزيرة المصطكى قوة تجلو وتغسل، وتُنبت اللحمَ في القروح، وتختم القُروح.. انتهى.
وإذا كان هذا في هذه التُرْبات، فما الظنُّ بأطيبِ تُربة
على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريقَ رسولِ الله ﷺ، وقارنت رُقيته باسم ربه،
وتفويض الأمر إليه، وقد تقدم أن قُوَى الرُّقْيَة وتأثيرَها بحسب الراقى، وانفعال
المرقى عن رُقْيَته، وهذا أمر لا يُنكره طبيب فاضل عاقل مسلم، فإن انتفى أحد
الأوصاف، فليقل ما شاء.
فصل في هديه ﷺ في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن أبي العاص، «أنه شكى إلى
رسول الله ﷺ وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبيُّ ﷺ: «ضع يَدَكَ عَلَى الَّذي
تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وقُل: بِسْمِ الله ثلاثا، وقُلْ سبع مرات: أعوذُ
بِعِزَّةِ الله وقُدرَتهِ منْ شَرِّ مِا أجدُ وأُحاَذِر» ففي هذا العلاج من ذكر
الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يَذهب به، وتكراره
ليكونَ أنجعَ وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة، وفي السبع خاصية لا توجد في
غيرها، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ، «كان يعوِّذُ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول:
«اللهمَّ رَبَّ الناس، أَذهِب الباَسَ، واشفِ أنت الشّافي، لا شِفَاء إلا شفاؤُك، شفاءً
لا يغادرُ سَقَما». ففي هذه الرُقية توسل إلى الله بكمال زبوبيته، وكما رحمته
بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شِفاؤُه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده
وإحسانه وربوبيته.
فصل في هديه ﷺ في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:
إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}[30]. وفي المسند عنه ﷺ أنه قال: «ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ
فيقولُ: إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي
خيرا منهَا، إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ، وأخلفَ لهُ خَيرا منها».
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته
وآجلته، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما:
أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله
عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه
محفوف بِعَدَمينِ: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضا
فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات
بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه
متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من
التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا
بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال
ولاعشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله
ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم
علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما
أخطأه لم يكن ليُصيبه. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأَرْضِ وَلاَ
في أَنْفُسِكُمْ إلاَّ في كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إنَّ ذَلِكَ
عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ
تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ * وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[31].
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به، فيجد ربه قد أبقى
عليه مثله، أو أفضل منه، وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك
المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
ومن علاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل
المصائب، وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد، ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا مِحنةً؟ ثم
ليعطف يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً؟، وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً،
إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ،
إن أضحكتْ قليلا، أبكتْ كثيرا، وإن سَرَّتْ يوما، ساءتْ دهرا، وإن مَتَّعتْ قليلا،
منعت طويلا، وما ملأت دارا خيرةً إلا ملأتها عَبْرة، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا
خبأتْ له يومَ شرور.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحةٍ تَرْحة، وما
مُلِىءَ بيتٌ فرحا إلا مُلِىءَ تَرحا.
وقال ابن سيرين: ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء.
وقالت هند بنت النُّعمان: لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ
الناس وأشدِّهم مُلكا، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وأنه
حقٌ على الله ألا يملأ دارا خَيْرة إلا ملأها عَبرة.
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذا
صباح، وما في العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمُنا.
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوما، وهى في عِزِّها،
فقيل لها: ما يُبكيكِ، لعل أحدا آذاك؟ قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضارة في أهلى،
وقلَّما امتلأت دارٌ سرورا إلا امتلأت حُزنا.
قال إسحاق بنُ طلحة: دخلتُ عليها يوما، فقلتُ لها: كيف
رأيتِ عبراتِ الملوك؟ فقالت: ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس، إنَّا
نجِدُ في الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون في خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة،
وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا
نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلَّبُ
تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومِن علاجها: أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها، بل يُضاعفها،
وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومِن علاجها: أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو
الصلاةُ والرحمة والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع، أعظمُ مِن
المصيبة في الحقيقة.
ومِن علاجها: أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه، ويسوء
صديقه، ويُغضب ربه، ويَسرُّ شيطانه، ويُحبط أجره، ويُضعف نفسه، وإذا صبرَ واحتسب أنضى
شيطانه، وردَّه خاسئا، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه،
وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدودِ،
وشقُّ الجيوب، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور، والسخَطُ على المقدور.
ومِن علاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب
من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه، ويكفيه
من ذلك بيتُ الحمد الذي يُبنى له في الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظرْ: أي
المصيبتين أعظمُ؟ مصيبةُ العاجلة، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد في جنَّة الخلد؟
وفي الترمذي مرفوعا: «يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ
جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض في الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ».
وقال بعضُ السَّلَف: لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا
القيامة مفاليس.
ومِن علاجها: أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من
الله، فإنه من كُلِّ شيء عِوَض إلا الله، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل:
مِنْ كُلِّ شيء إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنَ
اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له،
فمن رضى، فله الرِّضى، ومن سخِط، فله السَّخَط، فحظُّك منها ما أحدثته لك، فاختر
خيرَ الحظوظ أو شرَّها، فإن أحدثت له سخطا وكفرا، كُتِب في ديوان الهالكين، وإن
أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب، أو في فعل مُحَرَّم، كُتِبَ في ديوان المفرِّطين،
وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ، كُتِبَ في ديوان المغبونين، وإن أحدثتْ له
اعتراضا على الله، وقدحا في حكمته، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه، وإن أحدثت له
صبرا وثباتا لله، كُتِبَ في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله، كُتِبَ
في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ، كُتِبَ في ديوان الشاكرين، وكان
تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين، وإن أحدثت له محبةً واشتياقا إلى لقاء ربه، كُتِبَ
في ديوان المُحبِّين المخلصين.
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه:
«إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوما ابتلاهُم، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى، ومَن سَخِط
فَلَهُ السُّخْطُ». زاد أحمد: «ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ».
ومِن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ في الجَزَع غايتَه،
فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب، قال بعض الحكماء:
العاقلُ يفعل في أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومَن لم يصبْر
صَبْرَ الكِرَام، سلا سُلُوَّ البهائم
وفي الصحيح مرفوعا: «الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى».
وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرتَ إيمانا واحتسابا، وإلا
سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم.
ومِن علاجها: أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه
وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب، فمَن
ادَّعى محبة محبوب، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه، وأحبَّ ما يُسخطه، فقد شهد على نفسه
بكذبه، وتَمقَّتَ إلى محبوبه.
وقال أبو الدرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحب أن
يُرضَى به.
وكان عِمران بن حصين يقول في عِلَّته: أحَبُّهُ إلىَّ
أحَبُّهُ إليه، وكذلك قال أبو العالية.
وهذا دواءٌ وعلاج لا يَعمل إلا مع المُحبِّين، ولا يُمكن
كُلّ أحد أن يتعالج به.
ومِن علاجها: أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين،
وأدْوَمِهما: لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له، فإن ظهر
له الرجحان، فآثر الراجِحَ، فليحمدِ الله على توفيقه، وإن آثر المرجوحَ مِن كل
وجه، فليعلم أنَّ مصيبتَه في عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها في
دنياه
ومِن علاجها: أن يعلم أنَّ الذي ابتلاه بها أحكمُ
الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به، ولا ليُعذبه
به، ولا ليَجْتاحَه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع
تضرُّعه وابتهالَه، وليراه طريحا ببابه، لائذا بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه،
رافعا قصصَ الشكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت
لِتُهلِكَكَ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ،
والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ.
والمقصود: أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذي يُسبَك به
حاصله، فإما أن يخرج ذهبا أحمر، وإما أن يخرج خَبَثا كله، كما قيل:
سَبَكْنَاه ونَحْسِبهُ لُجَيْنا فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ
خَبَثِ الْحَدِيدِ
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ في الدنيا، فبيْنَ يديه الكِيرُ
الأعظم، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير
والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه في الكِير العاجل.
ومِن علاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها،
لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه
عاجلا وآجلا، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده في الأحيان بأنواع من أدوية
المصائب، تكون حِمية له من هذه الأدواء، وحِفظا لصحة عُبوديتهِ، واستفراغا للمواد
الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه، ويبتلى بنعمائه كما قيل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ
وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء،
لطَغَوا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيرا سقاه دواءً من
الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه
وصفَّاه، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا، وهى عبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو
رؤيتُه وقُربه ومِن علاجها: أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هي بعينها حلاوةُ الآخرة،
يَقلِبُها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأَنْ ينتقل
مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك. فإن خَفِىَ عليك هذا، فانظر
إلى قول الصادق المصدوق: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ، وحُفَّتِ النَّارُ
بالشَّهَواتِ»
وفي هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق، وظهرت حقائقُ
الرجال، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التى لا تزول، ولم
يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد، ولا مِحنةَ
ساعةٍ لعافيةِ الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإيمان ضعيفٌ،
وسلطانُ الشهوة حاكم، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النظر
الواقع على ظواهر الأُمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذي يَخرِق
حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخرُ.
فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من
النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة
من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة، ثم اخترْ أي القسمَيْن أليقُ بك، وكُلٌ يَعْمَلُ
عَلَى شَاكِلَتِهِ، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه، وما هو الأَوْلَى به، ولا
تستطِلْ هذا العلاج، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه، وبالله
التوفيق.
في هديه ﷺ في علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا في الصحيحين من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله ﷺ
كان يقول عند الكَرْب: «لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ
ربُّ العرشِ العَظِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع، ورَبُّ
الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ».
وفي جامع الترمذي عن أنس، أنَّ رسولَ الله ﷺ، «كان إذا
حَزَبَهُ أمرٌ، قال: «يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ».
وفيه عن أبى هُريرة: «أنَّ النبي ﷺ، كان إذا أهمَّهُ
الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال: «سُبْحَانَ الله العظيمِ»، وإذا اجتهد في
الدعاء قال: «يا حَىُّ يا قَيُّومُ».
وفي سنن أبي داود، عن أبى بكر الصِّدِّيق، أنَّ رسول
الله ﷺ قال: «دَعَواتُ المكروبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا تَكِلْنِى إلى
نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأني كُلَّهُ، لا إله إلا أنْتَ».
وفيها أيضا عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لى رسول الله
ﷺ: «ألا
أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو في الكَرْبِ: اللهُ رَبِّى لا
أُشْرِكُ به شيئا».
وفي رواية أنها تُقال سبعَ مرات.
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ قال: «ما
أصابَ عبدا هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال: اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ
أمتِكَ، ناصِيَتى بيَدِكَ، مَاضٍ في حُكْمُكَ، عَدْلٌْ في قضاؤكَ، اسألُكَ بكل اسْمٍ
هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أنزلْتَه في كِتَابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحدا
من خَلْقِك، أو استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ
العظيم رَبيعَ قَلْبِى، ونُورَ صَدْرى، وجِلاءَ حُزنى، وذَهَابَ هَمِّى، إلا أذْهَبَ
اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحا».
وفي الترمذي عن سعد بن أبى وَقَّاص، قال: قال رسولُ الله
ﷺ: «دعوةُ ذي النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو في بَطْنِ الحُوتِ: {لاَ إلهَ إلا
أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في
شيء قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له».
وفي رواية: «إنِّى لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ
إلا فرَّج الله عنه: كَلِمَةَ أخي يُونُس».
وفي سنن أبي داود عن أبى سعيد الخدرى، قال: دخل رسول
الله ﷺ ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له: أبو أُمَامة، فقال:
«يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ في المسجدِ في غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ»؟ فقال:
هُمومٌ لَزِمَتْنى، وديونٌ يا رسولَ الله، فقال: «ألا أُعَلِّمُكَ كلاما إذا أنت قُلْتَهُ
أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ»؟ قال: قلتُ: بلى يا رسول
الله، قال: «قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ
من الهَمِّ والحَزَنِ، وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ، وأعوذُ بِكَ من
الجُبْنِ والبُخْلِ، وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال»،
قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّي، وقَضى عنى دَيْنِي.
وفي سنن أبي داود، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ:
«مَن لَزِمَ الاستغفارَ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجا، ومِن كُلِّ
ضِيقٍ مَخْرَجا، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب»
وفي المسند: أنَّ النبي ﷺ كان إذا حَزَبَه أمرٌ، فَزِعَ
إلى الصَّلاة، وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة}
وفي السنن: «عَلَيْكُم بالجِهَادِ، فإنَّه بابٌ مِن
أبوابِ الجَنَّةِ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ».
ويُذكر عن ابن عباس، عن النبي ﷺ: «مَن كَثُرَتْ
هُمُومُهُ وغُمُومُهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ
باللهِ».
وثبت في الصحيحين: أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة.
وفي الترمذي: أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة.
هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعا من الدواء، فإن لم
تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن، فهو داءٌ قد استحكم، وتمكنت أسبابه،
ويحتاج إلى استفراغ كُلِّى..
الأول: توحيد الرُّبوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمى الاعتقادى.
الرابع: تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه
بلا سبب من العبد يُوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء، وهو
أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات: الحىُّ القَيُّوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع:
تحقيقُ التوكلِ عليه، والتفويضِ إليه، والاعترافُ له
بأنَّ ناصيتَه في يده، يُصرِّفُه كيف يشاء، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر:
أن يَرتَعَ قلبُه في رياض القرآن، ويجعلَه لقلبه كالربيع
للحيوان، وأن يَسْتَضِىءَ به في ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات، وأن يَتسلَّى به
عن كل فائت، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره، فيكونُ جِلاءَ
حُزْنِه، وشفاءَ همِّه وغَمِّه.
الحادي عشر: الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما
إلى مَن هُما بيدِه.
فصل في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه، وجعل لكل عُضو منها
كمالا إذا فقده أحسَّ بالألم، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالا، إذا فقده، حضرتْه
أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان.
فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار،
وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن
قُوَّة الكلام، فقدتْ كمالَها
والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور
به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة
فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، وأرْجَى
عنده مِن كل ما سواه، وأجَلَّ في قلبه مِن كل ما سواه، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا
لذَّةَ، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة، فإذا
فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه،
ورهْنٌ مقيم عليه.
ومن أعظم أدوائه: الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ
بِمَحابِّه ومَراضيه، وتركُ التفويض إليه، وقِلَّةُ الاعتماد عليه، والركونُ إلى
ما سواهُ، والسخطُ بمقدوره، والشكُّ في وعده ووعيده.
وإذا تأملتَ أمراض القلب، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هي
أسبابُها لا سببَ لها سِواها، فدواؤه الذي لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه
العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد،
والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية، وأمراضُه بأضدادها.
فالتوحيد..
يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح
والابتهاج، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التى هي سببُ أسقامه،
وحِميةٌ له من التخليط، فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة
والخير بالتوحيد، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار.
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم،
فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب، ومَن أراد عافية القلب، فليترُكْ الآثام.
وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم في قِلَّة الطعام،
وراحةُ الرَّوح في قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان في قِلَّة الكلام.
والذنوبُ للقلب، بمنزلة السُّموم، إن لم تُهلكْه
أضعفتْه، ولا بُدَّ، وإذا ضعُفت قوته، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض، قال طبيبُ
القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك:
رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلوبَ وَقَدْ يُورِثُ
الذُّلَّ إدْمَانُها
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلوبِ وَخَيرٌ
لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
فالهوى أكبرُ أدوائها، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها، والنفس
في الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها في اتباع هواها، وإنما
فيه تلفُها وعطَبُها، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء
فتعتمده، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء،
واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التى تُعيِى الأطباء، ويتعذَّرُ معها
الشفاء. والمصيبةُ العظمى، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر، فتُبرِّىء نفسَها،
وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائما، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان.
وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال، فلا يُطمَع في بُرئه
إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيُحييه حياةً جديدة، ويرزقُه طريقةً حميدة، فلهذا
كان حديث ابن عباس في دُعاء الكرب مشتملا على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب
سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة، والإحسان
والتجاوز، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والعرش الذي هو
سقفُ المخلوقات وأعظمها. والرُّبوبية التامة تستلزِمُ توحيدَه، وأنه الذي لا تنبغى
العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمتُه المطلقة
تستلزمُ إثباتَ كل كمال له، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه. وحِلمُه يستلزم كمال رحمته
وإحسانه إلى خلقه.
فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله
وتوحيدَه، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم
والغم، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه، ويُقوِّى نفسه، كيف
تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.
ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى
تضمَّنها دعاءُ الكرب، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه
إلى سعَةِ البهجة والسرور، وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه
أنوارُها، وباشر قلبُه حقائقَها.
وفي تأثير قوله: «يا حىُّ يا قَيُّومُ، برحمتِك أستغيثُ»
في دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال،
مستلزمة لها، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله
الأعظمُ الذي إذا دُعىَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم، والحياة
التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم
يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شيء من الآفات. ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال، وتنافى
القيومية، فكمالُ القيومية لكمال الحياة، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه
صِفة الكمال ألبتة، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة، فالتوسل بصفة
الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ في إزالة ما يُضادُّ الحياة، ويضُرُّ بالأفعال.
ونظير هذا توسلُ النبي ﷺ إلى ربه بربوبيته لجبريلَ
ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه، فإنَّ حياة
القلب بالهداية، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة، فجبريلُ
موَّكلٌ بالوحى الذي هو حياةُ القلوب، وميكائيل بالقَطْر الذي هو حياةُ الأبدان
والحيوان، وإسرافيل بالنَّفْخ في الصُّور الذي هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ
الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة،
له تأثير في حصول المطلوب.
والمقصود: أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيرا خاصا في إجابة
الدعوات، وكشف الكُربات.
وفي السنن وصحيح أبى حاتم مرفوعا: «اسمُ اللهِ الأعْظَم
في هاتَيْنِ الآيتين: {وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ}[32]، وفاتحةِ آلِ عمران: { آلم * اللهُ لاَ
إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}[33]، قال الترمذي: حديث صحيح
وفي السنن وصحيح ابن حِبَّان أيضا: من حديث أنس أنَّ
رجلا دعا، فقال: اللَّهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إلَهَ إلا
أنتَ المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلال والإكرام، يا حىُّ يا قَيُّومُ،
فقال النبي ﷺ: «لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذي إذا دُعِىَ به أجابَ، وإذا
سُئِلَ به أعْطَى».
ولهذا كان النبي ﷺ إذا اجتهد في الدعاء، قال: «يَا حىُّ
يا قَيُّومُ».
وفي قوله: «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو، فلا تَكِلْنى
إلى نفسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ» من تحقيق
الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده، وتفويضُ الأمر إليه،
والتضرع إليه، أن يتولَّى إصلاح شأنه، ولا يَكِلَه إلى نفسه، والتوسُّل إليه بتوحيده
مما له تأثيرٌ قوى في دفع هذا الداء، وكذلك قوله: «اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه
شَيْئا».
وأما حديث ابن مسعود: «اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ
عَبْدِكَ»، ففيه من المعارف الإلهية، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب،
فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته، وأنَّ ناصيته بيده
يُصرِّفها كيف يشاء، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا
حياةً، ولا نُشورا، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره، فليس إليه شيء من أمره، بل هو
عانٍ في قبضته، ذليل تحت سلطان قهرِه.
وقوله: «ماضٍ في حُكْمُكَ عَدْلٌ في قضاؤكَ» متضمنٌ
لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد.
أحدهما: إثباتُ القَدَر، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى
نافذةٌ في عبده ماضيةٌ فيه، لا انفكاكَ له عنها، ولا حِيلةَ له في دفعها.
والثاني:
أنه سبحانه عدلٌ في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده، بل لا
يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم، أو جهلُه،أو
سفهُه، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شيء عليمٌ، ومَن هو غنىٌ عن كل شيء، وكلُّ شيء فقيرٌ
إليه، ومَنْ هو أحكم الحاكمين، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده،
كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته، ولهذا
قال نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم، وقد خَوَّفه قومُه
بآلهتهم:{إنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
*مِن دُونِهِ، فَكِيدُونِى جَمِيعا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إنِّى تَوَكَّلْتُ علَى
اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم * مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ
رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[34]، أي مع كونه سبحانه آخذا بنَواصى خلقه
وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة،
والإحسان والرحمة. فقوله: «ماضٍ في حُكْمُكَ»، مطابقٌ لقوله: {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، وقولُه: «عَدْلٌ في قضاؤكَ»، مطابقٌ لقوله: {إنَّ
رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
[35]، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التى
سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا. ومنها: ما استأثره في علم
الغيب عنده، فلم يُطلع عليه مَلَكا مُقرَّبا، ولا نبيّا مرسلا، وهذه الوسيلةُ
أعظمُ الوسائل، وأحبُّها إلى الله، وأقربُها تحصيلا للمطلوب.
ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذي يرتَع فيه
الحيوانُ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه، فيكونُ
له بمنزلة الدواء الذي يستأصِلُ الداء، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله، وأن
يجعله لحُزنه كالجِلاء الذي يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها، فأحْرَى بهذا العلاج
إذا صدق العليل في استعماله أن يُزيلَ عنه داءه، ويُعقبه شفاءً تاما، وصحةً
وعافيةً.. والله الموفق.
وأما دعوةُ ذي النون.. فإنَّ فيها من كمال التوحيد
والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ
والغَمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج، فإنَّ التوحيدَ
والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه.
والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب، ويُوجب انكسارَه
ورجوعَه إلى الله، واستقالته عثرتَه، والاعترافَ بعبوديته، وافتقاره إلى ربه،
فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها:
التوحيد، والتنزيه، والعبودية، والاعتراف.
وأما حديث أبى أمامة: «اللَّهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ
الهَمِّ والحَزَنِ»، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء، كُلُّ اثنين منها
قَرينان مزدوجان، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان، والعجزُ والكسلُ أخوان، والجُبنُ
والبُخلُ أَخوان، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان، فإنَّ المكروه المؤلم إذا
ورد على القلب، فإما أن يكون سببهُ أمرا ماضيا، فيُوجب له الحزن، وإن كان أمرا متوقعا
في المستقبل، أوجب الهم، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه، إما أن يكون مِن
عدم القُدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه
وعن بنى جنسه، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه، فهو الجُبن، أو بماله، فهو البخل،
وقهرُ النَّاس له إما بحق، فهو ضَلَعُ الدَّيْن، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال،
فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ.
وأما تأثيرُ الاستغفار في دفع الهَّمِّ والغَمِّ
والضِّيق، فلِمَا اشترَكَ في العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ
المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ، والخوفَ والحُزن، وضيقَ الصدر، وأمراض القلب،
حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم، وسئمتها نفوسُهم، ارتكبوها دفعا لما
يَجِدُونه في صدورهم من الضيق والهَمِّ والغَمِّ، كما قال شيخُ الفسوق:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ
مِنْهَا بِهَا
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواءَ
لها إلا التوبةُ والاستغفار
وأما الصَّلاةُ.. فشأنها في تفريح القلب وتقويته، وشرحِه
وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله، وقربه والتنعم
بذكره، والابتهاجِ بمناجاته، والوقوفِ بين يديه، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته
في عبوديته، وإعطاء كل عضو حظَّه منها، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم
ومحاوراتهم، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحتِه من عدوِّه حالةَ
الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التى لا تُلائم إلا
القلوبَ الصحيحة. وأمَّا القلوبُ العليلة، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية
الفاضلة.
فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا
والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهى منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب،
ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد، ومُنوِّرةٌ للقلب، ومُبيِّضَةٌ للوجه، ومُنشِّطةٌ
للجوارح والنفس، وجالِبةٌ للرزق، ودافعةٌ للظلم، وناصِرةٌ للمظلوم، وقامِعةٌ
لأخلاط الشهوات، وحافِظةٌ للنعمة، ودافِعةٌ للنِّقمة، ومُنزِلةٌ للرحمة، وكاشِفة
للغُمَّة، ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن.
وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث مجاهد، عن أبى هريرة
قال: رآنى رسولُ الله ﷺ وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى، فقال لى: «يا أبا
هُرَيْرَة ؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ»؟ قال: قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: «قُمْ فَصَلِّ،
فإنَّ في الصَّلاةِ شِفَاءً».
وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفا على أبى هُرَيرةَ، وأنه هو
الذي قال ذلك لمجاهد، وهو أشبهُ.
ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى: أيوجعُكَ بطنُكَ؟
فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج، فيُخاطَبُ
بصناعة الطب، ويقالُ له: الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعا، إذ كانت تشتمِلُ على
حركات وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب، والركوع، والسجود، والتورُّك، والانتقالات
وغيرها من الأوضاع التى يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء
الباطنة، كالمَعِدَة، والأمعاء، وسائر آلات النَّفَس، والغذاء، فما يُنكر أن يكونَ
في هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها
في الصلاة، فتقوى الطبيعة، فيندفع الألم.
ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ،
والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا
إلاَّ الأشْقَى الذي كَذَّبَ وَتَوَلَّى
وأمَّا تأثيرُ الجهادِ في دفع الهم والغم، فأمرٌ معلوم بالوجدان،
فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه، اشتد همُّها وغمُّها،
وكربُها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحا ونشاطا
وقوةً، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ*وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}[36]، فلا شيء أذهبُ لجوَى القلب وغَمِّه
وهَمِّه وحُزنه من الجهاد.. والله المستعان.
وأمَّا تأثيرُ «لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله» في دفع
هذا الداءِ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا
به، وتسليمِ الأمر كله له، وعدمِ منازعته في شيء منه، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من
حَال إلى حال في العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والقوةِ على ذلك التحول، وأنَّ
ذلك كُلَّه باللهِ وحدَه، فلا يقوم لهذه الكلمة شيء.
وفي بعض الآثار: إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء، ولا
يَصعَدُ إليها إلا ب «لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله»، ولها تأثيرٌ عجيب في
طرد الشيطان.. والله المستعان.
فصل في هديه ﷺ في علاج الفزع والأرق المانع من النوم
روى الترمذي في جامعه عن بُريدةَ قال: شكى خالدٌ إلى
النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله ؛ ما أنام الليل مِن الأرَقِ، فقال النبي ﷺ: «إذا
أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّبْع وَمَا
أظَلَّتْ، ورَبَّ الأرَضِينَ، وَمَا أَقَلَّتْ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما أضَلَّتْ، كُنْ
لَى جارا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعا أنْ يَفْرُطَ علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ،
أَوْ يَبْغىَ عَلَىَّ، عَزَّ جَارُك، وجَلَّ ثَنَاؤُكَ، ولا إلهَ غَيْرُك».
وفيه أيضا: عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسولَ
اللهِ ﷺ، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ: «أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ
مِنْ غَضِبهِ، وعِقَابِهِ، وَشرِّ عِبَادِه، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ،
وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحضُرُونِ»، قال: وكان عبد الله بن عَمْرو يُعَلِّمُهنَّ
مَن عَقَلَ من بنيه، ومَن لم يَعْقِلْ كتبه، فأعلقه عليه، ولا يخفى مناسبةُ هذه
العُوذَةِ لعلاج هذا الداءِ.
فصل في هديه ﷺ في علاج داء الحريق وإطفائه
يُذكر عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسولُ
اللهِ ﷺ: «إذَا رَأيتُمُ الحَرِيقَ فَكَبِّروا، فإنَّ التكبيرَ يُطفِئُهُ».
لما كان الحريقُ سببهُ النارُ، وهى مادةُ الشيطان التى
خُلِقَ منها، وكان فيه من الفساد العام ما يُنَاسب الشيطان بمادته وفعلِه، كان
للشيطان إعانةٌ عليه، وتنفيذ له، وكانت النارُ تطلبُ بطبعها العلوَ والفسادَ،
وهذان الأمران وهما العلوُّ في الأرض والفسادُ هما هَدْىُ الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما
يُهلِكُ بنى آدم، فالنار والشيطان كل منهما يُريد العلو في الأرض والفسادَ،
وكبرياءُ الرب عَزَّ وجَلَّ تَقمَعُ الشيطانَ وفِعلَهُ.
ولهذا كان تكبيرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ له أثرٌ في إطفاء
الحريق، فإنَّ كبرياء الله عَزَّ وجَلَّ لا يقوم لها شيء، فإذا كبَّر المسلمُ
ربَّه، أثَّر تكبيرُه في خمودِ النار وخمودِ الشيطان التى هي مادته، فيُطفىءُ
الحريقَ، وقد جرَّبنا نحن وغيرُنا هذا، فوجدناه كذلك.. والله أعلم.
فصل في هديه ﷺ في حفظ الصحة
لما كان اعتدالُ البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة
الرطوبة المقاوِمةِ للحرارة، فالرطوبة مادته، والحرارةُ تُنضِجُهَا، وتدفع
فضلاتِها، وتُصلحها، وتلطفها، وإلا أفسدتْ البدن ولم يمكن قيامُه، وكذلك الرطوبةُ
هي غِذاءُ الحرارة، فلولا الرطُوبة، لأحرقتْ البدن وأيبَسَتْه وأفسدته، فقِوامُ
كُلِّ واحدة منهما بصاحبتها، وقِوام البدنِ بهما جميعا، وكُلٌ منهما مادة للأُخرى،
فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة، والرطوبة مادة
للحرارة تغذُوها وتحمِلُها، ومتى مالتْ إحداهما إلى الزيادة على الأُخرى، حصل
لمزاج البدن الانحرافُ بحسب ذلك، فالحرارةُ دائما تُحَلِّلُ الرطوبة، فيحتاجُ
البدن إلى ما به يُخلَف عليه ما حلَّلتْه الحرارة لضرورة بقائهِ وهو الطعامُ
والشرابُ، ومتى زاد على مقدار التحللِ، ضعُفتِ الحرارةُ عن تحليل فضلاته،
فاستحالتْ موادَّ رديئة، فعاثتْ في البدن، وأفسدتْ، فحصلت الأمراضُ المتنوعة بحسب
تنوُّع موادِّها، وقبولِ الأعضاء واستعدادِها، وهذا كُلُّه مستفَادٌ من قوله
تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}[37]، فأرشدَ عِباده إلى إدخالِ ما يُقِيمُ
البدنَ من الطعام والشراب عِوَضَ ما تحلَّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفعُ به
البدنُ في الكمِّية والكيفية، فمتى جاوز ذلك كان إسرافا، وكلاهما مانعٌ من الصحة
جالبٌ للمرض، أعنى عدم الأكل والشرب، أو الإسراف فيه.
فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين، ولا ريب
أنَّ البدن دائما في التحلل والاستخلاف، وكُلَّما كثر التحلُّل ضعفت الحرارة لفناء
مادتها، فإنَّ كثرةَ التحلل تُفنى الرطوبة، وهى مادة الحرارة، وإذا ضعفت الحرارة،
ضعفَ الهضم، ولا يزال كذلك حتى تَفنى الرطوبةُ، وتنطفئ الحرارة جملةً، فيستكملُ
العبدُ الأجلَ الذي كتب اللهُ له أن يَصِلَ إليه.فغايةُ علاج الإنسان لنفسه ولغيره
حراسةُ البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة، لا أنه يستلزمُ بقاءَ الحرارة والرطوبة
اللَّتين بقاءُ الشباب والصحة والقوَّة بهما، فإنَّ هذا مما لم يحصُلْ لبَشَر في
هذه الدار، وإنما غايةُ الطبيب أن يحمىَ الرطوبةَ عن مفسداتها من العفونة وغيرها،
ويحمىَ الحرارة عن مُضعِفاتها، ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدنُ
الإنسان، كما أنَّ به قامت السمواتُ والأرضُ وسائرُ المخلوقات، إنما قوامُها
بالعدل
ومَن تأمَّل هَدْىَ النبي ﷺ وجده أفضلَ هَدْى يُمكن
حِفظُ الصِّحة به، فإنَّ حفظها موقوفٌ على حُسن تدبير المطعم والمشرب، والملبس
والمسكن، والهواء والنوم، واليقظة والحركة، والسكون والمَنكَح، والاستفراغ
والاحتباس، فإذا حصَلتْ هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد
والسِّنِّ والعادة، كان أقربَ إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل
ولمَّا كانت الصحةُ والعافيةُ من أجَلِّ نِعَم الله على
عبده، وأجزل عطاياه، وأوفر مِنحه، بل العافيةُ المطلقة أجَلُّ النِّعَمِ على
الإطلاق، فحقيق لمن رُزق حظا مِن التوفيق مراعاتها وحِفظها وحمايتُها عمَّا
يُضادها.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس، قال: قال
رسول الله ﷺ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصِّحَّةُ
والفَرَاغُ».
وفي الترمذي وغيره من حديث عُبَيْد الله بن مِحصَن
الأنصارى، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن أصْبَحَ مُعَافىً في جَسَدِهِ، آمنا في
سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيا». وفى الترمذي
أيضا من حديث أبى هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: «أوَّلُ ما يُسْألُ عنه العَبْدُ يومَ
القيامَةِ مِنَ النَّعِيم، أن يُقال له: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، ونُرَوِّكَ
مِنَ الماءِ البارد». ومن هاهنا قال مَن قال مِن السَّلَف في قوله تعالى: {ثُمَّ
لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[38] قال: عن الصحة
وفي مسند الإمام أحمد: أنَّ النبي ﷺ قال للعباس: «يا
عباس، يا عَمَّ رسول اللهِ ؛ سَلِ اللهَ العافِيةَ في الدُّنْيَا والآخِرَة».
وفيه عن أبى بكر الصِّدِّيق، قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ
يقول: «سَلُوا اللهَ اليَقينَ والمُعافاةَ، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ اليقينِ خَيرا
من
العافية»، فجمع بين عافيتى
الدِّينِ والدنيا، ولا يَتِمُّ صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية،
فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه.
وفي سنن النسائي من حديث أبى هريرة يرفعه: «سَلُوا اللهَ
العَفْوَ والعافيةَ والمُعافاة، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ يقينٍ خيرا من مُعافاةٍ».
وهذه الثلاثة تتضمَّن إزالة الشرور الماضية بالعفو، والحاضرة بالعافية،
وَالمستقبلة بالمعافاة، فإنها تتضمن المداومةَ والاستمرارَ على العافية.
وفي الترمذي مرفوعا: «ما سُئِلَ اللهُ شيئا أحبَّ
إلَيْهِ من العافيةِ».
وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: عن أبى الدرداء، قلت: يا
رسول الله ؛ لأن أُعافَى فأشكُر أحبُّ إلىَّ من أن أُبتَلى فأصبر، فقال رسول الله
ﷺ: «ورسولُ اللهِ يُحِبُّ مَعَكَ العافِيَةَ».
ويُذكر عن ابن عباس أنَّ أعرابيا جاء إلى رسول الله ﷺ،
فقال له: ما أسألُ الله بعد الصلواتِ الخمس؟ فقال: «سَلِ اللهَ العافيةَ»، فأعاد
عليه، فقال له في الثالثة: «سَلِ اللهَ العَافِيةَ في الدُّنيا والآخرَة».
وإذا كان هذا شأنَ العافية والصحةِ، فنذكُرُ من هديه ﷺ
في مراعاة هذه الأُمور ما يتبيَّنُ لمن نظر فيه أنه أكملُ هَدْى على الإطلاق ينال
به حفظَ صحةِ البدن والقلب، وحياة الدُّنيا والآخرة، والله المستعانُ، وعليه
التُّكلان، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله.
فصل في هديه ﷺ في المطعم والمشرب
فأما المطعمُ والمشرب، فلم يكن مِن عادته ﷺ حبسُ النفسِ
على نوع واحد من الأغذية لا يتعدَّاه إلى ما سواه، فإنَّ ذلك يضر بالطبيعة جدا، وقد
سيتعذَّر عليها أحيانا، فإن لم يتناول غيرَه، ضعفَ أو هلكَ، وإن تناول غيره، لم
تقبله الطبيعة، واسْتضرَّ به، فقصرها على نوع واحد دائما ولو أنه أفضل الأغذية
خطرٌ مُضر.بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللَّحم، والفاكهة،
والخُبز، والتمر، وغيره مما ذكرناه في هديه في المأكول، فعليك بمراجعته هناك
وإذا كان في أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كسرٍ وتعديلٍ،
كسَرها وعدلها بضدها إن أمكن، كتعديل حرارة الرُّطَبِ بالبطيخ، وإن لم يجد ذلك،
تناوَله على حاجة وداعيةٍ من النفس من غير إسراف، فلا تتضرر به الطبيعة
وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله، ولم يُحمِّلْها
إيَّاه على كُره، وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه،
ولا تشتهيه، كان تضرُّره به أكثر من انتفاعه. قال أنس: ما عابَ رسولُ الله ﷺ طعاما
قَطُّ، إن اشتهاه أكلَه، وإلا تركه، ولم يأكلْ منه. ولمَّا قُدِّمَ إليه الضَّبُّ
المشوىُّ لم يأكلْ منه، فقيل له: أهو حرامٌ؟ قال: «لا، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمى،
فأجِدُنى أعافُه». فراعى عادتَه وشهوتَه، فلمَّا لم يكن يعتادُ أكله بأرضه، وكانت
نفسُه لا تشتهيه، أمسَكَ عنه، ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه، ومَنْ عادتُه أكلُه.
وكان يحبُّ اللَّحم، وأحبُّه إليه الذراعُ، ومقدم الشاة،
ولذلك سُمَّ فيه.وفى الصحيحين: «أُتِىَ رسولُ الله ﷺ بلحم، فرُفِع إليه الذراع،
وكانت تُعجبُه».وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة بنت الزُّبير، أنها ذَبحتْ في بيتها
شاةً، فأرسل إليها رسولُ الله ﷺ أنْ أطعِمِينا من شاتكم، فقالت للرسول: ما بقىَ
عندَنا إلاَّ الرَّقبةُ، وإنى لأستحى أنْ أُرسلَ بها إلى رسول الله ﷺ، فرجع
الرسولُ فأخبره، فقال: «ارْجِعْ إليها فقلْ لها: أَرْسِلى بِهَا، فإنَّها هاديةُ
الشَّاةِ وأقْرَبُ إلى الخَيْر، وأبعدُها مِنَ الأذَى» ولا ريب أن أخفَّ لحمِ
الشاة لحمُ الرقبة، ولحمُ الذراع والعَضُد، وهو أخفُّ على المَعِدَة، وأسرعُ
انهضاما، وفى هذا مراعاةُ الأغذية التى تجمع ثلاثةَ أوصاف ؛ أحدها: كثرةُ نفعها
وتأثيرها في القُوَى. الثاني: خِفَّتُها على المَعِدَة، وعدمُ ثقلها عليها. الثالث:
سرعةُ هضمها، وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء. والتغذِّى باليسير من هذا أنفعُ من الكثير
من غيره.
وكان يُحب الحَلْواءَ والعسلَ، وهذه الثلاثة أعنى: اللَّحم والعسل
والحلواء من أفضل الأغذية، وأنفعها للبدن والكَبِد والأعضاء، وللاغتذاء بها نفعٌ
عظيم في حفظ الصحة والقوة، ولا ينفِرُ منها إلا مَن به عِلَّةٌ وآفة. وكان يأكُلُ
الخبز مأدُوما ما وَجَدَ له إداما، فتارةً يَأدِمُه باللَّحم ويقول: «هُوَ سَيِّدُ
طعامِ أهلِ الدُّنيا والآخرةِ» رواه ابن ماجه وغيره «وتارة بالبطيخ، وتارةً
بالتمر،فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير، وقال: «هذا إدامُ هذه». وفى هذا من تدبير
الغذاء أنَّ خبز الشعير بارد يابس، والتمر حار رطب على أصح القولين، فأَدمُ خبزِ الشعير
به من أحسن التدبير، لا سِيَّما لمن تلك عادتُهم، كأهل المدينة، وتارةً بالخَلِّ،
ويقول: «نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ»، وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر، لا
تفضيلٌ له على غيرِه، كما يظن الجُهَّالُ، وسببُ الحديث أنه دخَلَ على أهله يوما،
فقدَّموا له خبزا، فقال: «هَل عِنْدَكُم مِن إدَامٍ»؟ قالوا: ما عِندَنا إلاَّ
خَل. فقال: «نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ». والمقصود: أنَّ أكل الخبز مأدوما من أسباب
حِفظ الصحة، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده. وسُمِىَ الأُدمُ أُدما: لإصلاحه
الخبزَ، وجعلِه ملائما لحفظ الصحة. ومنه قوله في إباحته للخاطب النظرَ: «إنه
أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بيْنَهما»، أي: أقربُ إلى الالتئام والموافقة، فإنَّ الزوجَ
يدخل على بصيرة، فلا يندَم.
وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يَحتمِى عنها،
وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة، فإنَّ الله سبحانه بحكمته جعل في كل بلدةٍ من
الفاكهة ما ينتفِعُ به أهلُها في وقتِهِ، فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم وعافيتِهم،
ويُغنى عن كثير من الأدوية، وقَلَّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السُّقم إلا
وهو مِن أسقم الناس جسما، وأبعدِهم من الصحة والقوة.وما في تلك الفاكهة من
الرطوبات، فحرارةُ الفصل والأرض، وحرارةُ المَعِدَة تُنضِجُهَا وتدفع شرها إذا لم
يُسْرِفْ في تناولها، ولم يُحمِّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَحْتَمِله، ولم يُفسد
بها الغذاء قبل هضمه، ولا أفسَدَها بشرب الماء عليها، وتناولِ الغذاء بعد التحلِّى
منها، فإن القُولَنْج كثيرا ما يَحدث عند ذلك، فمَن أكل منها ما ينبغي في الوقت
الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، كانت له دواءً نافعا.
فصل في هديه ﷺ في هيئة الجلوس للأكل
صحَّ عنه أنه قال: «لا آكُلُ مُتَّكِئا»، وقال: «إنما
أجْلِسُ كما يَجْلِسُ العبدُ، وآكُلُ كما يأكُلُ العبدُ».
وروى ابن ماجه في سننه أنه نَهى أن يأكلَ الرجلُ وهو
منبطحٌ على وجهه.وقد فُسِّر الاتكاءُ بالتربُّع، وفُسِّر بالاتكاء على الشيء، وهو
الاعتمادُ عليه، وفُسِّر بالاتكاء على الجنب. والأنواعُ الثلاثة من الاتكاء، فنوعٌ
منها يضرُّ بالآكل، وهو الاتكاء على الجنب، فإنه يمنعُ مجرَى الطعام الطبيعي عن
هيئته، ويَعوقُه عن سرعة نفوذه إلى المَعِدَة، ويضغطُ المَعِدَةَ، فلا يستحكم
فتحُها للغذاء، وأيضا فإنها تميل ولا تبقى منتصبة، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة.
وأما النوعان الآخران: فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية، ولهذا قال: «آكُلُ كما
يأكُلُ العبد» وكان يأكل وهو مُقْعٍ، ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل مُتَورِّكا
على ركبتيه، ويضعُ بطنَ قدمِه اليُسْرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعا لربه عَزَّ
وجَلَّ، وأدبا بين يديه، واحتراما للطعام وللمؤاكِل، فهذه الهيئة أنفعُ هيئات
الأكل وأفضلُها، لأنَّ الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله
سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة الأدبية، وأجودُ ما اغتذى الإنسان إذا كانت
أعضاؤه على وضعها الطبيعي، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصبا الانتصابَ الطبيعي،
وأردأ الجلسات للأكل الاتكاءُ على الجنب، لما تقدم من أن المَرِىء، وأعضاء
الازدراد تضيقُ عند هذه الهيئة، والمَعِدَةُ لا تبقى على وضعها الطبيعي، لأنها
تنعصر مما يلى البطن بالأرض، ومما يلى الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء،
وآلات التنفس
وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء
الذي تحت الجالس، فيكون المعنى أَنى إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوْطِية
والوسائد، كفعل الجبابرة، ومَن يُرِيد الإكثار من الطعام، لكنى آكُلُ بُلْغةً كما
يأكل العبد.
فصل وكان يأكُلُ بأصابعه الثَّلاث، وهذا أنفعُ ما يكون
من الأكلات، فإنَّ الأكل بأصبع أو أُصبعين لا يَستلذُّ به الآكل، ولا يُمريه، ولا
يُشبعه إلا بعدَ طول، ولا تفرحُ آلاتُ الطعام والمَعِدَةُ بما ينالها في كل أكلة،
فتأخذَها على إغماضٍ، كما يأخذ الرجل حقَّه حبَّةً أو حبَّتَين أو نحوَ ذلك، فلا يلتذُّ
بأخذه، ولا يُسَرُّ به، والأكل بالخمسة والراحةِ يُوجب ازدحامَ الطعام على آلاته،
وعلى المَعِدَةُ، وربما انسدَّت الآلات فمات، وتُغصبُ الآلاتُ على دفعه، والمَعِدَةُ
على احتماله، ولا يجد له لذةً ولا استمراءً، فأنفعُ الأكل أكلُه ﷺ وأكلُ مَن اقتدى
به بالأصابع الثلاث.
فصل ومَن تدبَّر أغذيته ﷺ وما كان يأكلهُ، وجَده لم يجمع
قَطُّ بين لبن وسمك، ولا بين لبن وحامض، ولا بين غذائين حارَّين، ولا بارِدين، ولا
لَزِجَين، ولا قابضين، ولا مُسهلين، ولا غليظين، ولا مُرخيين، ولا مستحيلين إلى
خلط واحد، ولا بين مختلفَين كقابض ومسهل، وسريع الهضم وبطيئه، ولا بين شَوىٍّ
وطبيخ، ولا بين طَرىٍّ وقَديد،ولا بين لبن وبيض، ولا بين لحم ولبن، ولم يكن يأكل طعاما
في وقت شدة حرارته، ولا طبيخا بائتا يُسخَّن له بالغد، ولا شيئا من الأطعمة
العَفِنَةِ والمالحة، كالكَوامخ والمخلَّلات، والملوحات. وكل هذه الأنواع ضار
مولِّدٌ لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال.وكان يُصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا
وَجد إليه سبيلا، فيكسرُ حرارةَ هذا ببرودة هذا، ويُبوسةَ هذا برطُوبة هذا، كما
فعل في القِثَّاء والرُّطَب، وكما كان يأكل التمر بالسَّمن، وهو الحَيْسُ، ويشربُ
نقيع التمر يُلطِّف به كَيْمُوساتِ الأغذية الشديدة وكان يأمر بالعَشاء، ولو بكفٍّ
من تمر، ويقول: «تَرْكُ العَشاءِ مَهْرَمةٌ»، ذكره الترمذي في جامعه، وابن ماجه في
سننه
وذكر أبو نُعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل،
ويذكر أنه يُقسى القلب، ولهذا في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة: أن يمشىَ بعد
العَشاء خُطواتٍ ولو مِائة خطوة، ولا ينام عَقِبه، فإنه مضر جدا، وقال مسلموهم: أو
يُصلِّى عقيبَه ليستقرَّ الغِذاء بقعرِ المَعِدَة، فيسهلَ هضمه، ويجودَ بذلك. ولم يكن
من هديه أن يشربَ على طعامه فيُفسده، ولا سِيَّما إن كان الماء حارا أو باردا،
فإنه رديء جدا. قال الشاعر:
لا تَكنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ وَدخُولِ
الْحَمَّامِ تَشربُ مَاءَ
فَإذَا ما اجْتَنَبْتَ ذلكَ حَقّا لَمْ تَخَفْ ما
حَيِيتَ فيالْجَوْفِ داءَ
ويُكره شرب الماء عقيبَ الرياضة، والتعبِ، وعقيبَ
الجِمَاع، وعقيبَ الطعامِ وقبله، وعقيبَ أكل الفاكهة، وإن كان الشربُ عقيبَ بعضِها
أسهلَ مِن بعض، وعقب الحمَّام، وعند الانتباه من النوم، فهذا كُلُّهُ منافٍ لحفظ
الصحة، ولا اعتبار بالعوائد، فإنها طبائع ثوانٍ.
فصل في هديه ﷺ في الشراب
وأما هديه في الشراب، فمن أكمل هَدْىٍ يحفظ به الصحة،
فإنه كان يشرب العسلَ الممزوجَ بالماء البارد، وفى هذا مِن حفظ الصحة ما لا يَهتدى
إلى معرفته إلا أفاضلُ الأطباء، فإنَّ شُربه ولعقَه على الرِّيق يُذيب البلغم،
ويغسِلُ خَمْل المَعِدَة، ويجلُو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات، ويُسخنها باعتدال، ويفتحُ
سددها، ويفعل مثل ذلك بالكَبِد والكُلَى والمثَانة، وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو
دخلها، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء، فربما هيَّجها،
ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ، فيعودُ حينئذ لهم نافعا جدا، وشربه أنفع من كثير من
الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرِها، ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة، ولا
ألِفَها طبعُه، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمةَ العسل، ولا قريبا منه،
والمحكَّمُ في ذلك العادة، فإنها تهدم أُصولا، وتبنى أُصولا
وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَىْ الحلاوة والبرودة، فمن
أنفع شيء للبدن، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة، وللأرواح والقُوى، والكبد والقلب، عشقٌ
شديدٌ له، واستمدادٌ منه، وإذا كان فيه الوصفانِ، حصَلتْ به التغذيةُ، وتنفيذُ
الطعام إلى الأعضاء، وإيصاله إليها أتمَّ تنفيذ.
والماء البارد رطب يقمع الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباته
الأصلية، ويرد عليه بدل ما تحلَّل منها، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه في العروق.
واختلف الأطباء: هل يُغذِّى البدن؟ على قولين: فأثبتت طائفةٌ
التغذية به بناءً على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة في البدن به، ولا
سِيَّما عند شدة الحاجة إليه.
قالوا: وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه
عديدة منها: النموُّ والاغتذاءُ والاعتدال، وفى النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه، ولهذا
كان غِذاءُ النبات بالماء، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء، وأن يكون جزءا
من غذائه التام.
قالوا:
ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه في الطعام، وإنما
أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية ألبتة. قالوا: وأيضا الطعام إنما يُغذِّى بما فيه
من المائية، ولولاها لما حصلت به التغذيةُ.قالوا: ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات،
ولا ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشيء، حصلت به التغذية، فكيف إذا كانت مادته
الأصلية، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شيء حَىٍّ}[39]، فكيف ننكِرُ حصولَ التغذية بما هو مادة
الحياة على الإطلاق؟
قالوا:
وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرِّىُّ بالماء البارد،
تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته، وصبرَ عن الطعام، وانتفع بالقدر اليسير منه،
ورأينا العطشانَ لا ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ،
ونحن لا ننكِرُ أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن، وإلى جميع الأعضاء،
وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه ألبتة،
ويكاد قولُه عندنا يدخُل في إنكار الأُمورالوجدانية.
وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به، واحتجَّت بأُمور
يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الاكتفاء به، وأنه لا يقومُ مقام الطعام، وأنه لا يزيد في
نموِّ الأعضاء، ولا يخلف عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ، ونحو ذلك مما لا ينكره
أصحاب التغذية، فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره، ولطافته ورقته، وتغذيةُ كل شيء
بحسبه، وقد شُوهد الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذِّى بحسبه،
والرائحة الطيبة تُغذِّى نوعا من الغذاء، فتغذية الماء أظهر وأظهر.
والمقصودُ: أنه إذا كان باردا، وخالطه ما يُحليه كالعسل
أو الزبيب، أو التمر أو السكر، كان من أنفع ما يدخل البدن، وحفِظَ عليه صحته،
فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى رسولِ الله ﷺ البارِدَ الحلوَ. والماءُ الفاتِرُ
ينفخ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء.
ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذي يُشرب وقتَ
استقائه، قال النبي ﷺ وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان: «هَلْ من ماءٍ بات
في شَنَّة»؟ فأتاه به، فشرب منه، رواه البخاري ولفظُه: «إنْ كان عِنْدَكَ ماءٌ
باتَ في شَنَّة وإلاَّ كَرَعْنَا».والماء البائت بمنزلة العجين الخمير، والذي
شُرِب لوقته بمنزلة الفطير، وأيضا فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا
بات، وقد ذُكِر أنَّ النبي ﷺ كان يُسْتَعْذَبُ له الماء، ويَختار البائت منه.
وقالت عائشة: كان رسول الله ﷺ يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا.
والماء الذي في القِرَب والشنان، ألذُّ من الذي يكون من
آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ، ولهذا التَمسَ النبي
ﷺ ماءً بات في شَنَّة دون غيرها من الأوانى، وفى الماء إذا وُضع في الشِّنان،
وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التى يرشَح منها الماء، ولهذا
كان الماء في الفَخَّار الذي يرشح ألذُّ منه، وأبردُ في الذي لا يرشَح، فصلاةُ
الله وسلامه على أكمل الخلق، وأشرفهم نفسا، وأفضلهم هَدْيا في كل شيء، لقد دَلَّ
أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان، والدُّنيا والآخرة
قالت عائشةُ: كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله ﷺ الحُلوَ
البارِدَ. وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ، كمياه العيون والآبار الحلوة،
فإنه كان يُستعذَب له الماء. ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل، أو الذي
نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ. وقد يُقال وهو الأظهر: يعمُّهما جميعا
وقولُه في الحديث الصحيح: «إن كان عندكَ ماء باتَ في
شَنٍ وإلا كَرَعْنَا»، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع، وهو الشرب بالفم من الحوضِ
والمِقْراةِ ونحوها، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع
بالفم، أو قاله مبيِّنا لجوازه، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه، والأطباءُ تكادُ
تُحَرِّمُه، ويقولون: إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة، وقد رُوى في حديث لا أدرى ما حالُه
عن ابن عمر، أنَّ النبي ﷺ نهانا أنْ نشرب على بطوننا، وهو الكَرْعُ، ونهانا أنْ
نغترِفَ باليد الواحدة وقال: «لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ، ولا
يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّرا»
وحديثُ البخاري أصحُّ من هذا، وإن صحَّ، فلا تعارُضَ
بينهما، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ، فقال: «وإلا كَرَعْنا»،
والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه، كالذي يشربُ من
النهر والغدِير، فأمَّا إذا شرب مُنتصِبا بفمه من حوض مرتفع ونحوِه، فلا فَرْقَ
بين أن يشرب بيده أو بفمه.
فصل وكان من هديه الشرب قاعدا هذا كان هديه المعتاد
وصحَّ عنه أنه نهى عن الشُّرب قائما، وصحَّ عنه أنه أمر
الذي شرب قائما أن يَسْتَقيء، وصَحَّ عنه أنه شرب قائما.
فقالت طائفةٌ: هذا ناسخٌ للنهى، وقالت طائفةٌ: بل
مبيِّنٌ أنَّ النهىَ ليس للتحريم، بل للإرشاد وتركِ الأوْلى، وقالت طائفةٌ: لا
تعارُضَ بينهما أصلا، فإنه إنما شَرِبَ قائما للحاجة، فإنه جاء إلى زمزمَ، وهم
يَستَقُون منها، فاستَقَى فناولُوه الدَّلوَ، فشرب وهو قائم، وهذ كان موضعَ حاجة.
وللشرب قائما آفاتٌ عديدة منها: أنه لا يحصل به الرِّىُّ
التام، ولا يستَقِرُّ في المَعِدَة حتى يَقْسِمَه الكبدُ على الأعضاء، وينزلُ
بسرعة وَحِدَّة إلى المَعِدَة، فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها، ويُشوشها، ويُسرع
النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج، وكلُّ هذا يَضُرُّ بالشارب، وأمَّا إذا فعله
نادرا أو لحاجة، لم يَضره، ولا يُعترض بالعوائد على هذا، فإنَّ العوائد طبائعُ ثوانٍ،
ولها أحكامٌ أُخرى، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء.
فصل وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك، قال: كان رسولُ
الله ﷺ يَتنفَّسُ في الشَّراب ثلاثا، ويقولُ: «إنه أرْوَى وأمْرَأُ
وأبْرَأُ».الشراب في لسان الشارع وحمَلَةِ الشرع: هو الماء، ومعنى تنفُّسِه في
الشراب: إبانتُه القَدَح عن فيه، وتنفُّسُه خارجَه، ثم يعود إلى الشراب، كما جاء
مصرَّحا به في الحديث الآخر: «إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلا يَتنفَّسْ في القَدَحِ،
ولكنْ لِيُبِنِ الإناءَ عن فيهِ»
وفي هذا الشرب حِكمٌ جَمَّة، وفوائدٌ مهمة، وقد نبَّه ﷺ
على مَجامِعها، بقوله: «إنه أروَى وأمرَأ وأبرأ» فأروَى: أشدُّ ريَّا، وأبلغُه وأنفعُه، وأبرأُ:
أفعلُ من البُرء، وهو الشِّفاء، أي يُبرىء من شدة العطش ودائه لتردُّدِه على
المَعِدَة الملتهبة دفعاتٍ، فتُسَكِّن الدفعةُ الثانية ما عجزت الأُولى عن تسكينه،
والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه، وأيضا فإنه أسلمُ لحرارة المَعِدَة، وأبقَى عليها
من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة، ونَهْلةً واحدة.وأيضا فإنه لا يُروِى لمصادفته
لحرارة العطش لحظةً، ثم يُقلع عنها، ولما تُكسَرْ سَوْرتُها وحِدَّتُها، وإن
انكسرتْ لم تبطل بالكلية بخلاف كسرِها على التمهُّل والتدريج.
وأيضا فإنه أسلمُ عاقبةً، وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع
ما يُروِى دفعةً واحدة، فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة الغريزية بشدة برده، وكثرةِ
كميته، أو يُضعفَها فيؤدِّى ذلك إلى فساد مزاج المَعِدَة والكَبِد، وإلى أمراض
رديئة، خصوصا في سكان البلاد الحارة، كالحجاز واليمن ونحوهما، أو في الأزمنة
الحارة كشدة الصيف، فإن الشرب وَهْلَةً واحدةً مَخُوفٌ عليهم جدا، فإنَّ الحار
الغريزى ضعيف في بواطن أهلها، وفى تلك الأزمنة الحارة.
وقوله:
«وأمْرَأُ»: هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ في
بدنه: إذا دخله، وخالطه بسهولة ولذة ونفع. ومنه: {فَكُلُوهُ هَنِيئا مَّرِيئا}[40]، هنيئا في عاقبته، مريئا في مذاقه.
وقيل: معناه أنه أسرعُ انحدارا عن المَرِىء لسهولته وخفته عليه، بخلاف الكثير،
فإنه لا يسهُل على المرىء انحدارُه.
ومن آفات الشرب نَهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشَّرَق
بأن ينسدَّ مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه، فيغَصَّ به، فإذا تنفَّس رُويدا، ثم شرب،
أمِنَ من ذلك.
ومن فوائده: أنَّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخارُ
الدخانىُّ الحارُّ الذي كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه، فأخرجَتْه
الطبيعةُ عنها، فإذا شرِب مرةً واحدةً، اتفق نزولُ الماء البارد، وصعودُ البخار،
فيتدافعان ويتعالجان، ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصَّة، ولا يهْنأ الشاربُ بالماء،
ولا يُمرئُه، ولا يتم رِيُّه.
وقد روى عبد الله بن المبارك، والبَيْهَقىُّ، وغيرُهما
عن النبي ﷺ: «إذا شَرِبَ أحدُكُم فَلْيَمَُصَّ الماءَ مَصَّا، ولا يَعُبَّ عبَّا،
فإنَّه مِن الكُبَادِ».والكُبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو وجع الكبد، وقد عُلم بالتجرِبة
أنَّ ورود الماء جملةً واحدة على الكبد يؤلمها ويُضعفُ حرارتَها، وسببُ ذلك المضادةُ
التى بين حرارتها، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته. ولو ورد بالتدريج
شيئا فشيئا، لم يضاد حرارتَها، ولم يُضعفْها، وهذا مثالُه صَبُّ الماء البارد على
القِدْر وهى تفور، لا يضرُّها صَبُّه قليلا قليلا.
وقد روى الترمذي في جامعه عنه ﷺ: «لا تَشْرَبُوا نَفَسا واحدا
كَشُرْبِ البَعيرِ، ولكن اشرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ، وسمُّوا إذا أنتم شَرِْبُتم
واحْمَدُّوا إذَا أنتُمْ فَرَغْتُمْ».
وللتسمية في أول الطعام والشراب، وحمد الله في آخره
تأثيرٌ عجيب في نفعه واستمرائه، ودفع مَضَرَّته.
قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعا، فقد كَمُل: إذا
ذُكِرَ اسمُ الله في أوله، وحُمِدَ اللهُ في آخره، وكثرتْ عليه الأيدى، وكان من
حِلٍّ.
فصل وقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله،
قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «غطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السِّقاءَ، فإنَّ في
السَّنَةِ لَيْلَةً ينزِلُ فِيهَا وِباءٌ لا يَمُرُّ بإناءٍ ليس عليه غِطَاءٌ، أو سِقاءٍ
ليس عليه وِكاءٌ إلا وَقَعَ فيه من ذلك الدَّاء».
وهذا مما لا تنالُه علوم الأطباء ومعارفُهم، وقد عرفه
مَن عرفه من عقلاء الناس بالتجربة. قال اللَّيث بن سعد أحدُ رواة الحديث: الأعاجمُ
عندنا يتَّقون تلك الليلة في السنة، في كانُونَ الأول منها.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ بتخمير الإناء ولو أن يَعرِضَ عليه
عُودا. وفى عرض العود عليه من الحكمة، أنه لا ينسى تخميرَه، بل يعتادُه حتى
بالعود، وفيه: أنه ربما أراد الدُّبَيِّب أن يسقط فيه، فيمرُّ على العود، فيكون
العودُ جسرا له يمنعه من السقوط فيه.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ عند إيكاءِ الإناء بذكر اسم الله، فإنَّ
ذِكْر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان، وإيكاؤُه يطرد عنه الهَوامَّ،
ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين الموضعين لهذين المعنيين.
وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ
الله ﷺ نهى عن الشُّرب مِنْ في السِّقاء.
وفي هذا آدابٌ عديدة، منها: أنَّ تردُّدَ أنفاس الشارب
فيه يُكسبه زُهومة ورائحة كريهة يُعاف لأجلها. ومنها: أنه ربما غلب الداخِلُ إلى
جوفه من الماء، فتضرَّر به. ومنها: أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به،فيؤذيه. ومنها: أنَّ
الماء ربما كان فيه قَذاةٌ أو غيرُها لا يراها عند الشرب، فتَلِج جوفه. ومنها:
أنَّ الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء، فيضيقُ عن أخذ حظَّه من الماء، أو يُزاحمه،
أو يؤذيه، ولغير ذلك من الحِكَم.
فإن قيل:
فما تصنعون بما في جامع الترمذي: أنَّ رسولَ الله ﷺ دعا
بإداوة يومَ أُحُد، فقال: «اخْنُثْ فَمَ الإدَاوَة»، ثُمَّ شَرِبَ منها مِن فَيّهَا.قلنا:
نكتفى فيه بقول الترمذي: هذا حديثٌ ليس إسناده بصحيح، وعبد الله ابن عمر العُمرىُّ
يُضعَّفُ من قِبلِ حفظه، ولا أدرى سمع من عيسى، أو لا... انتهى. يريد عيسى بن عبد
الله الذي رواه عنه، عن رجل من الأنصار.
فصل وفي سنن أبي داود من حديث أبى سعيد الخُدرىِّ، قال:
«نهى رسولُ الله ﷺ عن الشُّرب من ثُلْمَةِ القَدَحِ، وأن ينفُخَ في الشَّراب».
وهذا من الآداب التى تتم بها مصلحةُ الشارب، فإن الشُّرب من ثُلْمِة القَدَح فيه
عِدَّةُ مفاسد:
أحدها: أنَّ ما يكون على وجه الماء من قَذىً أو غيره
يجتمع إلى الثُّلْمة بخلاف الجانب الصحيح.
الثاني: أنَّه ربما شوَّش على الشارب، ولم يتمكن من حسن
الشرب من الثُّلْمة.
الثالث: أنَّ الوسخ والزُّهومة تجتمِعُ في الثُّلْمة،
ولا يصل إليها الغَسلُ، كما يصل إلى الجانب الصحيح.
الرابع:
أنَّ الثُّلْمة محلُّ العيب في القَدَح، وهى أردأُ مكان
فيه، فينبغي تجنُّبه، وقصدُ الجانب الصحيح، فإنَّ الرديء من كل شيء لا خير فيه،
ورأى بعض السَّلَف رجلا يشترى حاجة رديئة، فقال: لا تفعل، أما عَلِمتَ أنَّ اللهَ
نزع البركة من كل رديء.
الخامس: أنَّه ربما كان في الثُّلْمة شقٌ أو تحديدٌ يجرح
فم الشارب، ولغيرِ هذه من المفاسد.
وأما النفخ في الشراب.. فإنه يُكسِبُه من فم النافخ
رائحةٌ كريهةٌ يُعاف لأجلها، ولا سِيَّما إن كان متغيِّرَ الفم. وبالجملة: فأنفاس
النافخ تُخالطه، ولهذا جمع رسولُ الله ﷺ بين النهى عن التنفُّس في الإناء والنفخ فيه،
في الحديث الذي رواه الترمذي وصحَّحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نهى رسول
الله ﷺ أن يُتنفَّسَ في الإناء، أو يُنْفَخَ فيه.
فإن قيل: فما تصنعون بما في الصحيحين من حديث أنس، «أنَّ
رسول الله ﷺ كان يتنفَّسُ في الإناء ثلاثا»؟.
قيل: نُقابلُه بالقبول والتسليم، ولا مُعارضة بينه وبين الأول، فإن
معناه أنه كان يتنفس في شربه ثلاثا، وَذَكَرَ الإناءَ لأنه آلة الشرب، وهذا كما
جاء في الحديث الصحيح: أنَّ إبراهيم ابن رسول الله ﷺ مات في الثَّدْى، أي: في مُدة
الرَّضاع.
فصل وكان ﷺ يشرب اللَّبن خالصا تارةً، ومُشَوبا بالماء أُخرى.
وفى شرب اللَّبن الحلو في تلك البلاد الحارة خالصا ومَشوبا نفعٌ عظيم في حفظ
الصحة، وترطيبِ البدن، ورَىِّ الكبد، ولا سِيَّما اللبنَ الذي ترعى دوابُّه الشيحَ
والقَيْصومَ والخُزَامَى وما أشبهها، فإن لبنها غذاءٌ مع الأغذية، وشرابٌ مع
الأشربة، ودواءٌ مع الأدوية.
وفي جامع الترمذي عنه ﷺ: «إذا أكل أحدكم طعاما فيلقُلْ:
اللَّهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وأطْعِمنا خيرا منه، وإذا سُقى لبنا فليقل: اللَّهُمَّ
بارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه، فإنه ليس شيء يُجْزِئُ منَ الطعام والشرابِ إلاَّ
اللبنُ». قال الترمذي: هذا حديث حسن.
فصل وثبت في صحيح مسلم أنه ﷺ كان يُنْبَذُ له أوَّل
الليل، ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك، والليلةَ التى تجىءُ، والغَد، واللَّيلةَ الأُخرى،
والغَد إلى العصر، فإن بقى منه شيء سقاه الخادِمَ، أو أمر به فَصُبَّ.
وهذا النبيذ: هو ما يُطرح فيه تمرٌ يُحليه، وهو يدخل في
الغذاء والشراب، وله نفع عظيم في زيادة القوة، وحفظِ الصحة، ولم يكن يشربه بعدَ
ثلاث خوفا من تغيُّره إلى الإسكار.
فصل في تدبيره ﷺ الملبس
وكان من أتم الهَدْى، وأنفعه للبدن، وأخفِّه عليه،
وأيسره لُبسا وخَلعا، وكان أكثر لُبسه الأردية والأُزُر، وهى أخفُّ على البدن من
غيرها، وكان يلبسُ القميص، بل كان أحبَّ الثياب إليه.
وكان هَديُه في لُبسه لما يلبَسُه أنفَعُ شيء للبدن،
فإنه لم يكن يُطيل أكمامه، ويُوسِعُها، بل كانت كُمُّ قميصه إلى الرُّسْغ لا
يُجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعُه خِفَّة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه،
فتبرز للحر والبرد.
وكان ذيلُ قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز
الكعبين، فيؤذىَ الماشى ويَؤُوده، ويجعله كالمقيَّد، ولم يقصُرْ عن عَضلة ساقيه،
فتنكشفَ ويتأذَّى بالحر والبرد.
ولم تكن عِمامته بالكبيرة التى يؤذى الرأس حملُها،
ويضعفُه ويجعله عُرْضةً للضعف والآفات، كما يُشَاهَد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة
التى تقصرُ عن وقاية الرأس من الحر والبرد ؛ بل وَسَطا بين ذلك، وكان يُدخلها تحت
حَنكه، وفى ذلك فوائدُ عديدة: فإنها تقى العنق الحر والبرد، وهو أثبت لها، ولا
سِيَّما عِند ركوب الخيل والإبل، والكرِّ والفرِّ، وكثير من الناس اتخذ الكلاَليب
عوضا عن الحنك، ويا بُعدَ ما بينهما في النفع والزينة، وأنت إذا تأملت هذه
اللُّبسة وجدتها من أنفع اللُّبسات وأبلغِها في حفظ صحة البدن وقوته، وأبعدها من
التكلف والمشقة على البدن.
وكان يلبسُ الخِفاف في السفر دائما، أو أغلب أحواله
لِحاجة الرِّجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد، وفى الحَضَر أحيانا.
وكان أحبُّ ألوان الثياب إليه البياضَ، والحِبَرَة، وهى:
البرود المحبَّرة.
ولم يكن مِن هديه لُبس الأحمر، ولا الأسود، ولا
المصبَّغ، ولا المصقول
وأما الحُلَّة الحمراء التى لبسها، فهى الرداءُ
اليمانىُّ الذي فيه سوادٌ وحُمرة وبياض، كالحُلَّةِ الخضراء، فقد لبس هذه وهذه،
وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، وتغليطُ مَن زعم أنه لبس الأحمر القانى بما فيه كفاية.
فصل في تدبيره ﷺ لأمر المسكن
لمَّا علم ﷺ أنه على ظهرِ سيرٍ، وأن الدنيا مرحلةُ
مسافرٍ ينزلُ فيها مُدَّة عمره، ثم ينتقلُ عنها إلى الآخرة، لم يكن من هَديه وهَدى
أصحابه ومن تبعه الاعتناءُ بالمساكن وتشييدها، وتعليتها وزَخرفتها وتوسِيعها، بل
كانت من أحسن منازل المسافر تقى الحر والبرد، وتسترُ عن العيون، وتمنعُ من ولوج الدوابِّ،
ولا يُخاف سقوطُها لفرطِ ثقلها، ولا تُعشش فيها الهوام لِسعتها ولا تعتَوِرُ عليها
الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها، وليست تحت الأرض فتؤذىَ ساكنها، ولا في غاية
الارتفاع عليها، بل وسط، وتلك أعدلُ المساكن وأنفعُها، وأقلُّها حرا وبردا، ولا
تضيقُ عن ساكنها، فينحصِر، ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا فائدة، فتأوَى الهوامُّ في
خلوها، ولم يكن فيها كُنُفٌ تُؤذى ساكنها برائحتها، بل رائحتها من أطيب الروائح
لأنه كان يُحبُّ الطيب، ولا يزال عنده، وريحه هو من أطيب الرائحة، وعَرَقُه من
أطيب الطيب، ولم يكن في الدار كَنِيفٌ تظهر رائحتُه، ولا ريبَ أنَّ هذه من أعدل
المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن، وحفظِ صحته.
فصل في تدبيره ﷺ لأمر النوم واليقظة
مَن تدبَّر نومه ويقظَته ﷺ وجدَه أعدلَ نوم، وأنفعَه
للبدن والأعضاء والقُوى، فإنه كان ينام أوَّلَ الليل، ويستيقظ في أول النصف
الثاني، فيقومُ ويَستاك، ويتوضأ ويُصَلِّى ما كتبَ اللهُ له، فيأخذُ البدن
والأعضاء والقُوَى حظَّها من النوم والراحة، وحظَّها من الرياضة مع وُفورِ الأجر،
وهذا غايةُ صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة. ولم يكن يأخذ من النوم فوقَ القدر
المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعلُه على أكمل
الوجوه، فينامُ إذا دعتْه الحاجةُ إلى النوم على شِقِّه الأيمن، ذاكرا الله حتى
تغلبه عيناه، غيرَ ممتلئ البدنِ من الطعام والشراب، ولا مباشرٍ بجنبه الأرضَ، ولا
متخذٍ للفُرش المرتفعة، بل له ضِجَاع من أُدم حشوهُ ليف، وكان يَضطجع على
الوِسادة، ويضع يده تحت خدِّه أحيانا. ونحن نذكر فصلا في النوم، والنافع منه
والضار
فنقول: النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ
الغريزية والقُوى إلى باطن البدن لطلب الراحة، وهو نوعان: طبيعي، وغيرُ طبيعي.
فالطبيعي:
إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها، وهى قُوَى الحِسِّ
والحركة الإرادية، ومتى أمسكتْ هذه القُوَى عن تحريك البدن اسْتَرخى، واجتمعتْ
الرطوباتُ والأبخرةُ التى كانت تتحلَّل وتتفرَّق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي
هو مبدأ هذه القُوَى، فيتخدَّرُ ويَسترخِى، وذلك النومُ الطبيعي.
وأمَّا النومُ غيرُ الطبيعي، فيكونُ لعَرض أو مرض، وذلك
بأن تستولىَ الرطوباتُ على الدماغ استيلاءً لا تقدِرُ اليقظةُ على تفريقها، أو
تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما يكون عقيبَ الامتلاء مِن الطعام والشراب، فتُثقِلُ
الدماغ وتُرخيه، فَيتخدَّرَ، ويقع إمساكُ القُوَى النفسانية عن أفعالها، فيكون النوم.
وللنوم فائدتان جليلتان، إحداهما: سكونُ الجوارح
وراحتُها مما يَعرض لها من التعب، فيُريح الحواسَّ مِن نَصَب اليقظة، ويُزيل
الإعياء والكَلال.
والثانية: هضم الغذاء، ونُضج الأخلاط لأن الحرارة
الغريزية في وقت النوم تَغور إلى باطن البدن، فتُعين على ذلك، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج
النائم إلى فضل دِثَار.
وأنفعُ النوم: أن ينامَ على الشِّق الأيمن، ليستقرَّ الطعام
بهذه الهيئة في المَعِدَة استقرارا حسنا، فإن المَعِدَة أميَلُ إلى الجانب الأيسر
قليلا، ثم يَتحوَّل إلى الشِّق الأيسر قليلا ليُسرعَ الهضم بذلك لاستمالة
المَعِدَة على الكَبِد، ثم يَستقرُّ نومُه على الجانب الأيمن، ليكون الغِذاء أسرعَ
انحدارا عن المَعِدَة، فيكونُ النوم على الجانب الأيمن بُداءة نومه ونهايتَه،
وكثرةُ النوم على الجانب الأيسر مضرٌ بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصبُّ إليه
المواد.
وأردأُ النومِ النومُ على الظهر، ولا يَضرُّ الاستلقاء
عليه للراحة من غير نوم، وأردأُ منه أن ينامَ منبطحا على وجهه، وفى المسند وسنن
ابن ماجه، عن أبى أُمامةَ قال: مرَّ النبي ﷺ على رجُلٍ نائم في المسجد منبطح على
وجهه، فضرَبه برجله، وقال: «قُمْ أوِ اقْعُدْ فإنَّهَا نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ».
قال أبقراط في كتاب التَّقدِمة: وأما نومُ المريض على
بطنه من غير أن يكون عادتُه في صحته جرتْ بذلك، فذلك يدلُّ على اختلاط عقل، وعلى
ألمٍ في نواحى البطن، قال الشُرَّاح لكتابه: لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة
رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن.
والنومُ المعتدل ممكِّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها،
مريحٌ للقوة النفسانية، مُكْثرٌ من جوهر حاملها، حتى إنه ربَّما عاد بإرخائه مانعا
من تحلُّل الأرواح. ونومُ النهار ردئٌ يُورث الأمراضَ الرطوبية والنوازلَ، ويُفسد
اللَّون، ويُورث الطِّحال، ويُرخى العصبَ، ويُكسل، ويُضعف الشهوة، إلاَّ في
الصَّيفِ وقتَ الهاجِرة، وأردؤه نومُ أول النهار، وأردأُ منه النومُ آخره بعدَ
العصر، ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصُّبْحَةِ، فقال له: قم، أتنام
في الساعة التى تُقسَّمُ فيها الأرزاق؟
وقيل: نوم النهار ثلاثة: خُلقٌ، وحُرق، وحُمق. فالخُلق:
نومة الهاجرة، وهى خُلق رسول الله ﷺ. والحُرق: نومة الضحى، تُشغل عن أمر الدنيا والآخرة.
والحُمق: نومة العصر. قال بعض السَّلَف: مَن نام بعد العصر، فاختُلِسَ عَقلُه، فلا
يلومنَّ إلا نفسه. وقال الشاعر:
أَلاَ إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى خَبَالا
وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْرِ جُنُونُ
ونوم الصُّبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقتٌ تطلبُ فيه
الخليقةُ أرزاقَها، وهو وقتُ قسمة الأرزاق، فنومُه حرمانٌ إلا لعارض أو ضرورة، وهو
مضر جدا بالبدن لإرخائه البدن، وإفسادِه للفضلات التى ينبغي تحليلُها بالرياضة،
فيُحدث تكسُّرا وَعِيّا وضَعفا. وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المَعِدَة
بشيء، فذلك الداء العُضال المولِّد لأنواع من الأدواء.
والنومُ في الشمس يُثير الداءَ الدَّفين، ونومُ الإنسان
بعضُه في الشمس، وبعضُه في الظل رديء، وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبى
هريرة، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «إذا كان أحدكم في الشَّمْسِ فَقَلَصَ عنه الظِّلُّ،
فصار بَعْضُهُ في الشَّمْسِ وبَعْضُهُ في الظِّل، فَلْيَقُمْ».
وفي سنن ابن ماجه وغيره من حديث بُريدَةَ بن الحُصَيب،
«أنَّ رسولَ الله ﷺ نهى أنْ يقعُدَ الرَّجُلُ بين الظِّلِّ والشمس»، وهذا تنبيه
على منع النوم بينهما.
وفي الصحيحين عن البَرَاء بن عازِبٍ، أنَّ رسول الله ﷺ
قال: «إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاة، ثم اضطَّجِعْ على
شِقِّكَ الأيمنِ، ثم قل: اللَّهُمَّ إنِّى أسْلمتُ نَفْسِى إليكَ، ووَجَّهْتُ وجْهىِ
إليكَ، وفَوَّضْتُ أمرى إليكَ، وألجأْتُ ظَهْرى إليكَ، رَغبةً ورَهبةً إليكَ، لا
ملجأَ ولا مَنْجا منك إلاَّ إليكَ، آمَنتُ بكتابِكَ الذي أنْزَلْتَ، ونبيِّكَ الذي
أرْسلتَ. واجعلْهُنَّ آخر كلامِكَ، فإن مِتَّ مِن ليلتِك، مِتَّ على الفِطْرة».
وفي صحيح البخاري عن عائشة أنَّ رسولَ الله ﷺ، «كان إذا
صلَّى ركعتى الفجرِ يعنى سُنَّتَها اضْطَّجَعَ على شِقِّه الأيمنِ».
وقد قيل: إنَّ الحكمة في النوم على الجانب الأيمن، أن لا
يستغرقَ النائم في نومه، لأن القلب فيه ميلٌ إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه
الأيمن، طلب القلبُ مُستقَرَّه من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله
في نومه، بخلاف قراره في النوم على اليسار، فإنه مُستقَرُّه، فيحصُل بذلك الدَّعةُ
التامة، فيستغرق الإنسان في نومه، ويَستثقِل، فيفوتُه مصالح دينه ودنياه.
ولما كان النائمُ بمنزلة الميت، والنومُ أخو الموت ولهذا
يستحيل على الحىِّ الذي لا يموت، وأهلُ الجنَّة لا ينامون فيها كان النائم محتاجا
إلى مَن يحرُس نفسه، ويحفظُها مما يَعْرِضُ لها من الآفات، ويحرُسُ بدنه أيضا من
طوارق الآفات، وكان ربُّه وفاطرُه تعالى هو المتولى لذلك وحدَه. علَّم النبي ﷺ
النائمَ أن يقولَ كلماتِ التفويضِ والالتجاء، والرغبة والرهبة، ليَستدعىَ بها كمال
حفظِ الله له، وحراسته لنفسه وبدنه، وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِرَ الإيمانَ،
وينامَ عليه، ويجعلَ التكلُّمَ به آخرَ كلامه، فإنه ربما توفاه الله في منامه،
فإذا كان الإيمانُ آخِرَ كلامه دخل الجنَّة، فتضمَّن هذا الهَدْىُ في المنام
مصالحَ القلب والبدن والروح في النوم واليقظة، والدنيا والآخرة، فصلواتُ الله
وسلامُه على مَن نالتْ به أُمتُه كُلَّ خير
وقوله: «أسلَمتُ نفْسى إليكَ» ؛ أي: جعلتُها مُسلَّمَةً
لك تسليمَ العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه.
وتوجيهُ وجهه إليه: يتضمَّن إقبالَه بالكلِّية على ربه،
وإخلاص القصد والإرادة له، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد، قال تعالى: {فَإنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وذكر الوجهَ إذ هو
أشرفُ ما في الإنسان، ومَجْمَعُ الحواس، وأيضا ففيه معنى التوجُّهِ والقصدِ من
قوله:
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنبا لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبّ
الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وتفويض الأمر إليه: ردُّهُ إلى الله سبحانه، وذلك يُوجب
سُكون القلب وطمأنينتَه، والرِّضى بما يقضيه ويختارُه له مما يحبه ويرضاه،
والتفويضُ من أشرف مقامات العبودية، ولا عِلَّة فيه، وهو من مقامات الخاصة خلافا
لزاعمى خلاف ذلك.
وإلجاءُ الظَّهر إليه سبحانه: يَتضَمَّنُ قوةَ الاعتماد
عليه، والثقة به، والسكونَ إليه، والتوكلَ عليه، فإنَّ مَن أسند ظهره إلى ركن
وثيقٍ، لم يخف السقوطَ.
ولمَّا كان للقلب قوَّتان: قوة الطلب، وهى الرغبة، وقوة
الهرب، وهى الرهبة، وكان العبد طالبا لمصالحه، هاربا من مضارِّه، جمع الأمرين في
هذا التفويض والتوجُّه، فقال: «رغبةً ورهبةً إليك».
ثم أثنى على ربه، بأنه لا مَلجأ للعبد سواه، ولا منجا له
منه غيره، فهو الذي يلجأ إليه العبدُ ليُنجِيَه من نفسه، كما في الحديث الآخر:
«أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ، وأعوذُ بِكَ
مِنْكَ»، فهو سبحانه الذي يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذي هو بمشيئته وقُدرته،
فمنه البلاءُ، ومنه الإعانةُ، ومنه ما يُطلب النجاةُ منه، وإليه الالتجاءُ في
النجاة، فهو الذي يُلجأ إليه في أن يُنجىَ مما منه، ويُستعاذُ به مما منه، فهو
ربُّ كل شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته: {وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ
كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ}[41]، { قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُم مِّنَ
اللهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً }[42]
ثُمَّ ختم الدعاءَ بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذي
هو مَلاكُ النجاة، والفوز في الدنيا والآخرة، فهذا هديه في نومه.
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّي رَسُولٌ لَكَا نَ شَاهِدٌ في
هديه يَنْطِقُ
فصل وأمَّا هديه في يقظته، فكان يَستيقظ إذا صاح
الصَّارخُ وهو الدِّيك، فيحمَدُ اللهَ تعالى ويُكبِّره، ويُهلِّله ويدعوه، ثم
يَستاك، ثم يقوم إلى وضُوئه، ثم يَقِفُ للصلاة بين يَدَى ربه، مُناجيا له بكلامه،
مُثنيا عليه، راجيا له، راغبا راهبا، فأىُّ حفظٍ لصحةِ القلب والبدن، والرُّوح
والقُوَى، ولنعيم الدنيا والآخرة فوقَ هذا.
فصل وأمَّا تدبيرُ الحركة والسكون، وهو الرياضة، فنذكرُ
منها فصلا يُعلم منه مطابقةُ هديه في ذلك لأكملِ أنواعِه وأحمدِها وأصوبِها، فنقول:
من المعلوم افتقارُ البدن في بقائه إلى الغذاء والشراب،
ولا يَصير الغذاءُ بجملته جزءامن البدن، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما،
إذا كثُرتْ على ممر الزمان اجتمع منها شيء له كميةٌ وكيفية، فيضُرُّ بكميته بأن
يسد ويُثقلَ البدن، ويُوجبَ أمراضَ الاحتباس، وإن استفرغ تأذَّى البدن بالأدوية،
لأن أكثرها سُمِيَّة، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفَع به، ويضر بكيفيته، بأن
يسخن بنفسه، أو بالعَفِن، أو يبردُ بنفسه، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه.
وسدد الفضلات لا محالةَ ضارةٌ، تُرِكَتْ أو استُفرِغَتْ،
والحركةُ أقوى الأسباب في منع تولُّدِها، فإنها تُسخِّن الأعضاء، وتُسيل فضلاتِها،
فلا تجتمعُ على طول الزمان، وتُعوِّدُ البدنَ الخفةَ والنشاط، وتجعلُه قابلا
للغذاء، وتُصلِّب المفاصِل، وتُقوِّى الأوتارَ والرباطاتِ، وتُؤمن جميعَ الأمراض المادية
وأكثر الأمراض المِزاجية إذا استُعمِلَ القدرُ المعتدل منها في وقته، وكان باقى
التدبير صوابا.
ووقتُ الرياضة بعدَ انحدار الغذاء، وكمال الهضم،
والرياضةُ المعتدلة هي التى تحمرُّ فيها البَشْرة، وتربُو ويَتَنَدَّى بها البدنُ،
وأما التى يلزمُها سيلانُ العرق فمفرِطةٌ، وأىُّ عضو كثرتْ رياضتُه قَوِىَ، وخصوصا
على نوع تلك الرياضة، بل كلُّ قوة فهذا شأنُها، فإنَّ مَن استكثَر من الحفظ قويتْ
حافِظتُه، ومَن استكثرَ من الفكر قويتْ قُوَّتُه المفكِّرة، ولكل عضو رياضةٌ
تخصُّه، فللصدرِ القراءةُ، فليبتدئ فيها من الخِفية إلى الجهر بتدريج، ورياضةُ
السمع بسمعِ الأصوات، والكلام بالتدريج، فينتقل من الأخف إلى الأثقل، وكذلك رياضةُ
اللِّسان في الكلام، وكذلك رياضةُ البصر، وكذلك رياضةُ المشى بالتدريج شيئا فشيئا.
وأمَّا ركوبُ الخيل، ورمىُ النُّشَّاب، والصراعُ،
والمسابقةُ على الأقدام، فرياضةٌ للبدن كلِّه، وهى قالعة لأمراض مُزمنةٍ، كالجُذام
والاستسقاء والقولنج.
ورياضةُ النفوس بالتعلُّم والتأدُّب، والفرح والسرور،
والصبر والثبات، والإقدام والسماحة، وفِعْل الخير، ونحو ذلك مما تَرْتاض به النفوسُ،
ومن أعظم رياضتها: الصبرُ والحب، والشجاعة والإحسان، فلا تزالُ تَرتاض بذلك شيئا
فشيئا حتى تَصيرَ لها هذه الصفاتُ هيآتٍ راسخةً، ومَلَكاتٍ ثابتةً.
وأنت إذا تأمَّلت هديه ﷺ في ذلك، وجدتَه أكملَ هَدْىٍ
حافظٍ للصحة والقُوَى، ونافعٍ في المعاش والمعاد.
ولا رَيْبَ أنَّ الصلاة نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن،
وإذابةِ أخلاطه وفضلاته، ما هو من أنفع شيء له سوى ما فيها مِن حفظِ صحة الإيمان،
وسعادةِ الدنيا والآخرة، وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأُمور
لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب، كما في الصحيحين عن
النبي ﷺ، أنه قال: «يَعقِدُ الشَّيْطَانُ على قافِيَةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هو نامَ
ثلاثَ عُقَدٍ، يَضربُ على كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طويلٌ، فارقُدْ، فإنْ
هو استيقَظ، فذكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ، انحلَّتْ عُقْدَةٌ
ثانيةٌ، فإنْ صَلَّى انحلَّتْ عُقْدُهُ كُلُّهَا، فأصبحَ نشيطا طَيِّبَ النفْسِ،
وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ».
وفي الصوم الشرعي من أسبابِ حفظ الصحة ورياضةِ البدن
والنفس ما لا يدفعُه صحيحُ الفطرة.
وأما الجهادُ وما فيه من الحركات الكلية التى هي من أعظم
أسباب القوة، وحفظ الصحة، وصلابةِ القلب والبدن، ودفعِ فضلاتهما، وزوالِ الهم
والغم والحزن، فأمر إنَّما يعرفه مَن له منه نصيبٌ، وكذلك الحجُّ، وفعلُ المناسك،
وكذلك المسابقةُ على الخيل، وبالنِّصال، والمشىُ في الحوائج، وإلى الإخوان، وقضاءُ
حقوقهم، وعيادة مرضاهم، وتشييعُ جنائزهم، والمشىُ إلى المساجد للجُمُعات
والجماعات، وحركةُ الوضوء والاغتسال، وغير ذلك.
وهذا أقلُّ ما فيه الرياضةُ المعينة على حفظِ الصحة،
ودفع الفضلات، وأما ما شُرع له من التوصُّل به إلى خيرات الدنيا والآخرة، ودفع
شرورهما، فأمرٌ وراء ذلك.
فعلمتَ أنَّ هديه فوق كل هَدْىٍ في طبِّ الأبدان
والقلوب، وحفظِ صحتها، ودفع أسقامهما، ولا مزيدَ على ذلك لمن قد أحضر رشده..
وبالله التوفيق.
فصل في الجماع والباه وهدي النبي ﷺ فيه
وأما الجِماعُ والباهُ، فكان هديه فيه أكملَ هَدْىٍ،
يحفَظ به الصحة، وتتمُّ به اللَّذةُ وسرور النفس، ويحصل به مقاصدُه التى وُضع
لأجلها، فإن الجِمَاع وُضِعَ في الأصل لثلاثة أُمور هي مقاصدُه الأصلية:
أحدها: حفظُ النسل، ودوامُ النوع إلى أن تتكاملَ العُدة
التى قدَّر الله بروزَها إلى هذا العالَم.
الثاني: إخراجُ الماء الذي يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة
البدن.
الثالث:
قضاءُ الوَطر، ونيلُ اللَّذة، والتمتعُ بالنعمة، وهذه
وحدَها هي الفائدةُ التى في الجنَّة، إذ لا تناسُلَ هناك، ولا احتقانَ يستفرِغُه
الإنزالُ.
وفضلاءُ الأطباء: يرون أنَّ الجِمَاع من أحد أسباب حفظ
الصحة. قال جالينوس: الغالبُ على جوهر المَنِىِّ النَّارُ والهواءُ، ومِزاجُه حار
رطب، لأن كونه من الدم الصافى الذي تغتذى به الأعضاءُ الأصلية، وإذا ثبت فضلُ
المَنِىِّ، فاعلم أنه لا ينبغي إخراجُه إلا في طلب النسل، أو إخراجُ المحتقن منه، فإنه
إذا دام احتقانُه، أحدث أمراضا رديئة، منها: الوسواسُ والجنون، والصَّرْع، وغيرُ
ذلك، وقد يُبرئ استعمالُه من هذه الأمراض كثيرا، فإنه إذا طال احتباسُه، فسد
واستحال إلى كيفية سُمِّية تُوجب أمراضا رديئة كما ذكرنا، ولذلك تدفعُه الطبيعةُ
بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جِمَاع.
وقال بعض السَّلَف: ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه
ثلاثا: أن لا يدعَ المشىَ، فإن احتاج إليه يوما قدَر عليه، وينبغي أن لا يدَع
الأكل، فإن أمعاءه تضيق، وينبغي أن لا يدَع الجِمَاعَ، فإن البئر إذا لم تُنزحْ،
ذهب ماؤها.
وقال محمد بن زكريا: مَن ترك الجِمَاعَ مدةً طويلة،
ضعفتْ قُوى أعصابه، وانسدَّت مجاريها، وتقلَّص ذَكرُه. قال: ورأيتُ جماعة تركوه
لنوع من التقشف، فبرُدَتْ أبدانُهُم، وعَسُرَتْ حركاتُهُم، ووقعتْ عليهم كآبةٌ بلا
سبب، وقَلَّتْ شهواتُهُم وهضمُهُم.. انتهى.
ومن منافعه: غضُّ البصر، وكفُّ النفس، والقدرةُ على
العِفَّة عن الحرام، وتحصيلُ ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في دنياه وأُخراه، وينفع
المرأة، ولذلك كان ﷺ يتعاهدُه ويُحبُه، ويقول: «حُبِّبَ إلىَّ مِن دُنْيَاكُمُ:
النِّسَاءُ والطِّيبُ».
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد في هذا الحديث زيادةٌ لطيفة،
وهي: «أصبرُ عن الطعام والشراب، ولا أصبرُ عنهنَّ».
وحثَّ على التزويج أُمَّته، فقال: «تَزَوَّجوا، فإنِّى
مُكاثرٌ بِكُمُ الأُمَمَ».
وقال ابن عباس: خيرُ هذه الأُمة أكثرُها نِساءً.
وقال: «إنِّي أتزوَّجُ النساءَ، وأنامُ وأقومُ، وأَصُومُ
وأُفطِرُ، فمن رَغِبَ عن سنتي فليس مني».
وقال:
«يا معشرَ الشبابِ ؛ مَن استطاعَ منكم الباءَةَ
فلْيَتَزَوَّجْ، فإنه أغضُّ للبصرِ، وأحْفَظُ للْفِرْج، ومَن لم يستطعْ، فعليه
بالصومِ، فإنه له وِجاءٌ»
ولما تزوج جابر ثيِّبا قال له: «هَلاَّ بِكْرا
تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ».
وروى ابن ماجه في سننه من حديث أنس بن مالك قال، قال
رسولُ الله ﷺ: «مَن أراد أنْ يَلْقَى اللهَ طاهرا مُطَهَّرا، فَلْيَتَزَوَّج
الحَرَائِرَ». وفى سننه أيضا من حديث ابن عباس يرفعه، قال: «لم نَرَ
للمُتَحابَّيْن مِثْلَ النِّكاحِ».
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول
الله ﷺ: «الدُّنيا مَتَاعٌ، وخَيْرُ متاع الدُّنْيا المرأةُ الصَّالِحَةُ».
وكان ﷺ يُحرِّض أُمته على نكاح الأبكار الحسان، وذواتِ
الدين، وفى سنن النسائي عن أبى هريرةَ قال: سُئل رسولُ الله ﷺ: أي النساءِ خير؟
قال: «التى تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ، وتُطِيعُهُ إذا أَمَرَ، ولا تُخَالِفُه فيما يَكَرَهُ
في نفسِها ومالِهِ».
وفي الصحيحين عنه، عن النبي ﷺ، قال: «تُنكَحُ المرأةُ لمالِها،
ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِينِهَا، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّين، تَرِبَتْ
يَدَاكَ».
وكان يَحثُّ على نكاح الوَلُود، وَيَكرهُ المرأة التى لا
تلد، كما في سنن أبي داود عن مَعْقِل بن يَسار، أنَّ رجلا جاء إلى النبي ﷺ، فقال:
إنى أصَبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ، وإنَّها لاَ تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُها؟
قال: «لا»، ثم أتاه الثانيةَ، فَنَهَاه، ثم أتاه الثالثةَ، فقال: «تَزَوَّجُوا
الوَدُودَ الوَلُودَ، فإنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمْ».
وفي الترمذي عنه مرفوعا: «أَرْبَعٌ من سُنن المُرْسَلِينَ:
النِّكاحُ، والسِّواكُ، والتَّعَطُّرُ والحِنَّاءُ». رُوى في «الجامع» بالنون و
والياء، وسمعتُ أبا الحجَّاج الحافظَ يقول: الصواب: أنه الخِتَان، وسقطت النونُ من
الحاشية، وكذلك رواه المَحَامِلىُّ عن شيخ أبى عيسى الترمذي.
وممَّا ينبغي تقديُمُه على الجِماع ملاعبةُ المرأة،
وتقبيلُها، ومصُّ لِسانها، وكان رسول الله ﷺ، يُلاعبُ أهله، ويُقَبلُها
وروى أبو داود في سننه: أنه ﷺ «كان يُقبِّلُ عائشةَ،
ويمصُّ لِسَانَها».
ويُذكر عن جابر بن عبد الله قال: «نَهَى رسولُ الله ﷺ عن
المُواقعةِ قبلَ المُلاَعَبَةِ».
وكان ﷺ ربما جامع نساءَه كُلَّهن بغُسل واحد، وربما
اغتَسَلَ عند كل واحدة منهن، فروى مسلم في «صحيحه» عن أنس أنَّ النبي ﷺ كان يَطوفُ
على نسائه بغُسْلٍ واحد.
وروى أبو داود في سننه عن أبي رافع مولَى رسول الله ﷺ، أنَّ
رسولَ الله ﷺ طاف على نسائه في ليلة، فاغتَسَلَ عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غُسلا،
فقلتُ: يا رسول الله ؛ لو اغتسلتَ غُسلا واحدا، فقال: «هذا أزكى وأطْهَرُ وأطْيَبُ».
وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين
الجِمَاعَيْن، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبى سعيد الخدرىِّ، قال: قال رسول
الله ﷺ: «إذا أتى أحدُكُم أَهْلَهُ، ثم أرادَ أن يعودَ فلْيَتَوَضأ».
وفي الغُسْلِ والوضوء بعد الوطء من النشاطِ، وطيبِ النفس،
وإخلافِ بعض ما تحلَّل بالجِماع، وكمالِ الطُهْر والنظافة، واجتماع الحار الغريزى
إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع، وحصولِ النظافة التى يُحبها الله، ويُبغض
خلافها ما هو مِن أحسن التدبير في الجِماع، وحفظ الصحة والقُوَى فيه.
فصل وأنفعُ الجِماع: ما حصلَ بعد الهضم، وعند اعتدال البدن
في حرِّه وبرده، ويُبوسته ورطوبته، وخَلائه وامتلائه. وَضَرَرُه عند امتلاء البدن
أسهلُ وأقل من ضرره عند خُلوِّه، وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلُّ منه عند
اليبوسة، وعند حرارته أقلُّ منه عند برودته، وإنما ينبغي أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ
الشهوةُ، وحصَلَ الانتشارُ التام الذي ليس عن تكلُّفٍ، ولا فكرٍ في صورة، ولا نظرٍ
متتابع.
ولا ينبغي أن يستدعىَ شهوةَ الجِماع ويتكلفها، ويحمل
نفسه عليها، وليُبادْر إليه إذا هاجتْ به كثرةُ المَنِىِّ، واشتد شَبَقُهُ،
وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغيرةِ التى لا يُوطأُ مثلُها، والتى لا شهوة لها،
والمريضةِ، والقبيحةِ المنظرِ، والبَغيضة، فوطءُ هؤلاء يُوهن القُوَى، ويُضعف
الجِماع بالخاصِّية، وغلط مَن قال من الأطباء: إن جِماع الثيِّب أنفعُ من جِماع
البكر وأحفظُ للصحة، وهذا من القياس الفاسد، حتى ربما حذَّر منه بعضُهم، وهو مخالف
لِما عليه عقلاءُ الناسِ، ولِما اتفقتْ عليه الطبيعةُ والشريعة.
وفي جِماع البِكر من الخاصِّية وكمالِ التعلُّق بينها
وبين مُجامعها، وامتلاءِ قلبها من محبته، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره، ما ليس
للثَيِّب. وقد قال النبي ﷺ لجابر: «هلاَّ تَزوَّجتَ بِكرا»، وقد جعل الله سبحانه
من كمالِ نساء أهل الجنَّة من الحُور العين، أنَّهن لم يَطْمِثْهُنَّ أحدٌ قبلَ
مَن جُعِلْنَ له، من أهل الجنَّة. وقالت عائشةُ للنبي ﷺ: أرأيْتَ لو مَرَرْتَ
بشجرةٍ قد أُرْتِعَ فيها، وشجرةٍ لم يُرْتَعْ فيها، ففي أيِّهما كنتَ تُرتِعُ
بعيرَك؟ قال: «في التى لم يُرْتَعْ فيها». تريد أنه لم يأخذ بكرا غيرَها.
وجِماعُ المرأة المحبوبة في النفس يَقِلُّ إضعافُهُ
للبدن مع كثرةِ استفراغه للمَنِىِّ، وجماع البغيضة يُحِلُّ البدن، ويُوهن القُوَى
مع قِلَّةِ استفراغه، وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعا وشرعا، فإنه مضرٌ جدا، والأطباء قاطبةً
تُحَذِّر منه.
وأحسنُ أشكالِ الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأةَ، مُستفرِشا
لها بعدَ المُلاعبة والقُبلة، وبهذا سُميت المرأة فِراشا، كما قال ﷺ: «الولَدُ
لِلفِراش»، وهذا من تمام قَوَّامية الرجل على المرأة، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [43]، وكما قيل:
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشَا يُقِلُّنِى وَعِنْدَ
فَرَاغِى خَادِمٌ يَتَمَلَّقُ
وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [44]، وأكملُ اللِّباس وأسبَغُه على هذه
الحال، فإن فِراش الرجل لباسٌ له، وكذلك لِحَافُ المرأة لباسٌ لها، فهذا الشكلُ
الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الآية، وبه يَحسن موقعُ استعارةِ اللِّباس من كل من الزوجين
للآخر.
وفيه وجه آخرُ، وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحيانا، فتكونُ
عليه كاللِّباس، قال الشاعر:
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها تَثَنَّتْ فَكَانَتْ
عَلَيْهِ لِبَاسَا
وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأةُ، ويُجامِعَها على
ظهره، وهو خلافُ الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة، بل نوعَ الذكر
والأُنثى، وفيه من المفاسد، أنَّ المَنِىَّ يتعسَّرُ خروجُه كلُّه، فربما بقى في
العضو منه فيتعفنُ ويفسد، فيضر.
وأيضا: فربما سال إلى الذَّكر رطوباتٌ من الفَرْج.
وأيضا: فإنَّ الرَّحِم لا يتمكن من الاشتمال على الماء
واجتماعِهِ فيه، وانضمامِهِ عليه لتَخْلِيقِ الولد.
وأيضا: فإنَّ المرأة مفعولٌ بها طبعا وشرعا، وإذا كانت فاعلة
خالفتْ مقتضى الطبع والشرع.
وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على
حَرْفٍ، ويقولون: هو أيسرُ للمرأة.
وكانت قريش والأنصار تَشْرَحُ النِّساءَ على أقْفَائِهن،
فعابَتِ اليهودُ عليهم ذلك، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ
فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
[45].
وفي الصحيحين عن جابر، قال: كانت اليهود تقولُ: إذا أتى
الرجلُ امرأتَه من دُبُرِها في قُبُلِها، كان الولدُ أَحوَلَ، فأنزل الله عَزَّ
وجَلَّ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [46].
وفي لفظ لمسلم: «إن شاء مُجَبِّيَة، وإن شاء غير
مُجَيِّبَة، غَيْرَ أنَّ ذلك في صِمامٍ واحدٍ».
والمُجَبِّبَة: المُنْكَبَّة على وجهها، والصمام الواحد:
الفَرْج، وهو موضع الحرْثِ والولد.
وأما الدُّبرُ: فلم يُبَحْ قَطُّ على لسان نبي من
الأنبياء، ومَن نسب إلى بعض السَّلَف إباحة وطء الزوجة في دُبُرها، فقد غلط عليه.
وفي سنن أبى داود عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ:
«ملعونٌ مَن أتى المرأةَ في دُبُرِها».
وفي لفظ لأحمد وابن ماجه: «لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ
جَامَعَ امرأتَه في دُبُرِها».
وفي لفظ للترمذي وأحمد: «مَن أتى حائضا، أو امرأةً في
دُبُرِها، أوْ كاهنا فَصَدَّقَهُ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد ﷺ».
وفي لفظ للبيهقي: «مَنْ أتى شيئا مِنَ الرِّجَالِ
والنِّسَاءِ في الأدبار فقد كفر».
وفي مصنف وكِيع: حدثنى زمْعة بن صالح، عن ابن طاووس، عن
أبيه، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن يَزيد ؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيى من الحقِّ، لا تأتُوا النِّسَاءَ
في أعجازِهِنَّ»، وقال مَرَّة: «في أدبارِهِنَّ».
وفي الترمذي: عن على بن طَلْق، قال: قال رسول الله ﷺ:
«لا تأتوا النِّسَاءَ في أعجازِهِنَّ، فإن الله لا يستحى من الحقِّ».
وفي الكامل لابن عَدي: من حديثه عن المحامِلي، عن سعيد
بن يحيى الأموي، قال: حدَّثنا محمد بن حمزَةَ، عن زيد بن رَفيع، عن أبى عُبيدة، عن
عبد الله بن مسعود يرفعه: «لا تأتوا النِّسَاءَ في أعْجَازِهِنَّ».
وروينا في حديث الحسن بن على الجوهرىِّ، عن أبى ذرٍّ
مرفوعا: «مَنْ أتى الرِّجَال والنِّسَاءَ في أدْبَارِهنَّ، فقد كَفَرَ».
وروى إسماعيل بن عيَّاش، عن سُهيل بن أبى صالح، عن محمد
ابن المُنْكَدِر، عن جابر يرفعه: «اسْتَحْيُوا مِنَ الله، فإنَّ اللهَ لا
يَسْتَحيى مِنَ الحقِّ، لا تأْتُوا النِّسَاءَ في حُشُوشِهِنَّ».
ورواه الدارقطني من هذه الطريق، ولفظه: «إنَّ الله لا
يَسْتَحيى مِنَ الحق، لا يَحلُّ مَأْتَاك النِّسَاءَ في حُشُوشِهِنَّ».
وقال البغوي: حدثنا هُدْبَةُ، حدثنا همَّام، قال: سُئِل
قتادة عن الذي يأتى امرأته في دُبُرِها ؛ فقال: حَدَّثنى عمرو بن شُعَيب، عن أبيه،
عن جده، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «تلك اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرى».
وقال أحمد في مسنده: حدَّثنا عبد الرحمن، قال: حدَّثنا
همَّام، أُخبِرنا عن قتادَةَ، عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، فذكره.
وفي المسند أيضا: عن ابن عباس: أنزلت هذه الآية:
{نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [47] في أُناسٍ من الأنصار، أتَوْا رسولَ الله ﷺ، فسألوه، فقال:
«ائْتِها على كُلِّ حال إذا كان في الفَرْج».
وفي المسند أيضا: عن ابن عباس، قال: جاء عمرُ بنُ الخطاب
إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله: هلكتُ. فقال: «وما الذي أهلكَكَ»؟ قال:
حَوَّلْتُ رَحْلى البارِحَةَ، قال: فلم يَرُدَّ عليه شيئا، فأوحى الله إلى رسوله: {نِسَاءُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [48] أَقْبِلْ وأَدْبِرْ، واتَّقِ الحَيْضَةَ والدُّبُرَ».
وفي الترمذي: عن ابن عباس مرفوعا: «لا يَنْظُرُ اللهُ
إلى رَجُلٍ أتى رَجُلا أو امرأةً في الدُّبُرِ».
وروينا من حديث أبى على الحسن بن الحسين بن دُومَا، عن
البَراء بن عازِب يرفعه: «كَفَرَ باللهِ العظيم عشرةٌ من هذه الأُمة: القاتِلُ،
والسَّاحِرُ، والدُّيُّوثُ، وناكحُ المرأةِ في دُبُرِها، ومانِعُ الزكاةِ، ومَن
وَجَدَ سَعَةً فماتَ ولم يَحُجَّ، وشاربُ الخَمْرِ، والسَّاعِى في الفِتَنِ، وبائعُ
السِّلاحِ من أهلِ الحربِ، ومَن نكَح ذَاتَ مَحْرَمٍ منه».
وقال عبد الله بن وهب: حدَّثنا عبد الله بن لَهيعةَ، عن
مِشرَح بن هاعانَ، عن عقبةَ بن عامر، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «مَلْعُونٌ مَن يأتى
النِّسَاءَ في محاشِّهِنَّ» ؛ يعنى: أدْبَارِهِنَّ.
وفي مسند الحارث بن أبى أُسامة من حديث أبى هريرة، وابن
عباس قالا: خطبنا رسولُ الله ﷺ قبل وفاته، وهى آخِرُ خُطبةٍ خطبها بالمدينة حتى
لحق بالله عَزَّ وَجَلَّ، وعظنا فيها وقال: «مَن نَكَحَ امرأَةً في دُبُرِها أو
رجلا أو صَبِيَّا، حُشِرَ يَوْمَ القيامة، وريحُهُ أنْتَنُ مِنَ الجِيفةِ يتأذَّى
به النَّاسُ حتى يَدْخُلَ النَّار، وأَحْبَطَ اللهُ أجرَهُ، ولا يَقْبَلُ منه
صَرْفا ولا عدلا، ويُدْخَلُ في تابوتٍ من نارٍ، ويُشَدُّ عليه مَساميرُ من نارٍ»،
قال أبو هريرة: هذا لمن لم يتب.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني، من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه،
«إنَّ الله لا يَسْتَحي مِنَ الحَق، لا تأتوا النِّساَء في أَعْجاَزِهِنَّ».
وقال الشافعي: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع، قال:
أخبرني عبد الله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، عن خزيمة بن ثابت،
أن رجلا سأل النبي ﷺ عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: «حلال»، فلما ولى، دعاه
فقال: «كيف قُلتَ، في أيِّ الخُرْبَتَينِ، أو في أي الخَرْزَتَينِ، أو في أيِّ الخَصْفَتَينِ
أمنْ دُبُرهاَ في قُبُلهَا؟ فَنَعَم. أم مِنْ دُبُرِهاَ في دُبُرِهاَ، فلا، إنَّ
الله لا يَسْتَحيِي مِنَ الحَق، لا تأتوا النِّساَء في أَدبارهِنَّ».
قال الربيع: فقيل للشافعي: فما تقول؟ فقال: عمي ثقة، وعبد
الله بن علي ثقة، وقد أثنى على الأنصاري خيرا، يعني عمرو بن الجلاح، وخزيمة ممن لا
يشك في ثقته، فلست أرخص فيه، بل انهي عنه.
قلت: ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من
السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدُّبر طريقا إلى الوطء في الفرج، فيطأ من
الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع «من» ب «في» ولم يظن بينهما فرقا، فهذا الذي
أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه.
وقد قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
الله} [49] قال مجاهد: سألتُ ابن عَبَّاس عن قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [50]، فقال: تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها
يعني في الحيض. وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول: في الفرج، ولا تعدُه إلى غيره.
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين:
أحدهما: أنه أباح إتيانها في الحرث، وهو موضع الولد لا في الحُشّ الذي هو موضع
الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [51] الآية قال: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [52] وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ من الآية أيضا، لأنه
قال: أنى شئتم، أي: من أين شئتم من أمام أو من خلف. قال ابن عباس: فأتوا حرثكم،
يعني: الفرج.
وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض،
فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل
والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضا: فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دُبرها
يفوِّتُ حقها، ولا يقضي وطَرَها، ولا يُحَصِّل مقصودها.
وأيضا:
فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له، وإنما الذي
هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا.
وأيضا:
فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهي عنه عقلاءُ الأطباء منِ
الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه
والوطءُ في الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كلَّ المحتقن
لمخالفته للأمر الطبيعي.
وأيضا: يضر من وجه آخَر، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ
جدا لمخالفته للطبيعة.
وأيضا: فإنه محل القذر والنَّجْوِ، فيستقبلُه الرَّجل
بوجهه، ويُلابسه.
وأيضا: فإنه يضرُّ بالمرأة جدا، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ
عن الطباع، مُنافر لها غايةَ المنافرة.
وأيضا: فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم، والنفرةَ عن الفاعل
والمفعول.
وأيضا:
فإنه يُسَوِّدُ الوجه، ويُظلم الصدر، ويَطمِسُ نور
القلب، ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة.
وأيضا: فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد، والتقاطع
بين الفاعل والمفعول، ولا بُدَّ.
وأيضا: فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكادُ
يُرجَى بعده صلاح، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النصوح.
وأيضا: فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضِدَّها.
كما يُذهب بالمَوَدَّة بينهما، ويُبدلهما بها تباغضا وتلاعُنا.
وأيضا:
فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم، وحُلول النِقَم، فإنه
يوجب اللَّعنةَ والمقتَ من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه، فأىُّ خير
يرجوه بعد هذا، وأىُّ شر يأمنُه، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته، وأعرض
عنه بوجهه، ولم ينظر إليه.
وأيضا: فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً، والحياءُ هو حياة
القلوب، فإذا فقدها القلبُ، استحسَن القبيح، واستقبحَ الحسن، وحينئذٍ فقد استَحكَم
فسادُه.
وأيضا: فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله، ويُخرج
الإنسانَ عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئا من الحيوان، بل هو طبع منكوس،
وإذا نُكِسَ الطبعُ انتكس القلب، والعمل، والهدى، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من
الأعمال والهيئات، ويفسد حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره.
وأيضا: فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه
سواه.
وأيضا: فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما
لا يورثه غيره.
وأيضا:
فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء، وازدراءِ
الناس له، واحتقارِهم إيَّاه، واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ، فصلاة الله وسلامه
على مَن سعادةُ الدنيا والآخرة في هديه واتباعِ ما جاء به، وهلاكُ الدنيا والآخرة
في مخالفة هديه وما جاء به.
فصل والجِماع الضار: نوعان ؛ ضارٌ شرعا، وضارٌ طبعا.
فالضار شرعا: المحرَّم، وهو مراتبُ بعضُها أشدُّ من بعض.
والتحريمُ العارض منه أخفُّ من اللازم، كتحريم الإحرام، والصيام، والاعتكاف،
وتحريم المُظاهِرِ منها قبل التكفير، وتحريمِ وطء الحائض... ونحو ذلك، ولهذا لا
حدَّ في هذا الجِمَاع.
وأما اللازمُ: فنوعان ؛ نوعٌ لا سبيل إلى حِلَّه ألبتة، كذواتِ
المَحارم، فهذا من أضر الجِمَاع، وهو يُوجب القتل حدا عند طائفة من العلماء، كأحمد
ابن حنبلٍ رحمه الله وغيرِه، وفيه حديث مرفوع ثابت.
والثاني:
ما يمكن أن يكون حلالا، كالأجنبية، فإن كانت ذاتَ زوج،
ففي وطئها حَقَّان: حقٌّ للهِ، وحقٌّ للزوج. فإن كانت مُكرَهة، ففيه ثلاثةُ حقوق،
وإن كان لها أهل وأقاربُ يلحقهم العارُ بذلك صار فيه أربعةُ حقوق، فإن كانت ذات مَحْرَم
منه، صار فيه خمسةُ حقوق. فمَضَرَّةُ هذا النوع بحسب درجاته في التحريم.
وأما الضار طبعا، فنوعان أيضا: نوعٌ ضار بكيفيته كما
تقدَّم، ونوعٌ ضار بكميته كالإكثار منه، فإنه يُسقط القُوَّة، ويُضر بالعصب،
ويُحدث الرِّعشةَ، والفالج، والتشنج، ويُضعف البصر وسائرَ القُوَى، ويُطفئُ الحرارةَ
الغريزية، ويُوسع المجارىَ، ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية.
وأنفعُ أوقاته، ما كان بعد انهضام الغذاء في المَعِدَة
وفى زمانٍ معتدلٍ لا على جوع، فإنه يُضعف الحار الغريزى، ولا على شبع، فإنه يُوجب
أمراضا شديدةً، ولا على تعب، ولا إثْرَ حمَّام، ولا استفراغٍ، ولا انفعالٍ نفسانى
كالغمِّ والهمِّ والحزنِ وشدةِ الفرح.
وأجودُ أوقاته بعد هَزِيع من الليل إذا صادف انهضامَ
الطعام، ثم يغتسل أو يتوضأ، وينامُ عليه، وينامُ عقبه، فَتَراجَعُ إليه قواه،
وليحذرِ الحركة والرياضة عقبه، فإنها مضرة جدا.
فصل في هديه ﷺ في علاج العشق
هذا مرضٌ من أمراض القلب، مخالفٌ لسائر الأمراض في ذاته
وأسبابه وعلاجه، وإذا تمكَّنَ واستحكم، عزَّ على الأطباء دواؤه، وأعيا العليلَ
داؤُه، وإنَّما حكاه اللهُ سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس: من النِّسَاء،
وعشاقِ الصبيان المُرْدان، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسفَ، وحكاه عن قوم لوط،
فقال تعالى إخبارا عنهم لمَّا جاءت الملائكةُ لوطا: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إنَّ هَؤُلآءِ ضيفىَ فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُواْ
اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ *قَالَ
هَؤُلآءِ بَنَاتِى إن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِى
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[53].
وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدرسولَ الله ﷺ حقَّ قدره
أنه ابتُلِىَ به في شأن زينب بنت جَحْش، وأنه رآها فقال: «سُبحانَ مُقَلِّبِ
القُلُوبِ». وأخذتْ بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ: «أمْسِكْها» حتى أنزل الله
عليه: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى في نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[54]، فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك في شأن
العشق، وصنَّف بعضهم كتابا في العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة،
وهذا من جهلِ هذا القائل بالقرآن وبالرُّسُل، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا
يحتمِلُه، ونسبتِه رسولَ الله ﷺ إلى ما برَّأَه الله منه، فإنَّ زينبَ بنت جحش
كانت تحتَ زيدِ بن حارثةَ، وكان رسولُ الله ﷺ قد تبنَّاه، وكان يُدعى «زيد بن
محمد»، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه، فشاور رسولَ الله ﷺ في طلاقها، فقال
له رسولُ الله ﷺ: «أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله»، وأخفى في نفسه أن
يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة ابنه، لأن
زيدا كان يُدعى ابنَه، فهذا هو الذي أخفاه في نفسه، وهذه هي الخشية من الناس التى
وقعت له، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا يُعاتبه فيها،
وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له، وأنَّ اللهَ أحق أن
يخشاه، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس، ثم أخبره أنه سبحانه زوَّجه
إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدىَ أُمَّتُه به في ذلك، ويتزوج الرجل
بامرأةِ ابنه من التبنِّى، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه، ولهذا قال في آية التحريم:
{وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}[55]، وقال في هذه السورة: {مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}[56]، وقال في أولها: {وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ، ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [57]، فتأمَّلْ هذا الذبَّ عن رسول الله ﷺ،
ودَفْع طعنِ الطاعنين عنه، وبالله التوفيق.
نعم..
كان رسولُ الله ﷺ يُحِبُّ نساءه، وكان أحبَّهن إليه
عائشةُ رضي الله عنها، ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه نهايةَ الحب،
بل صح أنه قال: «لو كنتُ مُتَّخِذا من أهل الأرض خليلا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلا»، وفى لفظ: «وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ الرَّحْمَن».
فصل وعشقُ الصُّوَر إنما تُبتلى به القلوبُ الفارغة مِن
محبة الله تعالى، المُعْرِضةُ عنه، المتعوِّضةُ بغيره عنه، فإذا امتلأَ القلبُ من
محبة الله والشوق إلى لقائه، دفَع ذلك عنه مرضَ عشق الصور، ولهذا قال تعالى في
حقِّ يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[58]، فدلَّ على أن الإخلاص سببٌ لدفع العشق
وما يترتَّبُ عليه من السوء والفحشاء التى هي ثمرتُه ونتيجتُه، فصرفُ المسبب صرفٌ
لسببه، ولهذا قال بعضُ السَّلَف: العشقُ حركة قلب فارغ، يعنى فارغا مما سوى
معشوقه. قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغا}[59]، إن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ أي: فارغا
من كل شيء إلا من موسى لفرطِ محبتها له، وتعلُّقِ قلبها به
والعشق مُرَكَّب من أمرين: استحسانٍ للمعشوق، وطمع في
الوصول إليه، فمتى انتفى أحدهُما انتفى العشقُ، وقد أعيتْ عِلَّةُ العشق على كثير
من العقلاء، وتكلم فيها بعضهم بكلام يُرغَب عن ذكره إلى الصواب.
فنقول: قد استقرت حكمة الله عَزَّ وجَلَّ في خلقه وأمره
على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه، وانجذابِ الشيء إلى مُوافقه ومجانسه
بالطبعِ، وهُروبه من مخالفه، ونُفرته عنه بالطبع، فسِرُّ التمازج والاتصال في
العالم العُلوى والسُّفلى، إنما هو التناسبُ والتشاكلُ، والتوافقُ، وسِرُّ التباين
والانفصال، إنما هو بعدم التشاكل والتناسب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر، فالمِثْلُ
إلى مثلِه مائلٌ، وإليه صائرٌ، والضِّدُّ عن ضده هارب، وعنه نافرٌ، وقد قال تعالى:
{هُوَ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إلَيْهَا} [60]، فجعل سُبحانه عِلَّةَ سكون الرَّجل إلى
امرأته كونَها مِن جنسه وجوهره، فعِلَّةُ السكون المذكور وهو الحب كونُها منه، فدل
على أن العِلَّة ليست بحُسن الصورة، ولا الموافقة في القصد والإرادة، ولا في الخلق
والهُدَى، وإن كانت هذه أيضا من أسباب السكون والمحبة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «الأرْواحُ
جُنُودٌ مُجَنَّدةٌ، فما تَعارَفَ منها ائْتلَف، وما تَناكَرَ منها اخْتَلَفَ».
وفى مسند الإمام أحمد وغيره في سبب هذا الحديث: أنَّ امرأة بمكةَ كانت تُضِحكُ الناسَ،
فجاءت إلى المدينة، فنزلتْ على امرأة تُضِحكُ الناسَ، فقال النبي ﷺ: «الأرواحُ
جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»... الحديثَ.
وقد استقرتْ شريعتُه سُبحانه أنَّ حُكم الشيء حُكْمُ
مثله، فلا تُفَرِّقُ شريعته بين متماثلين أبدا، ولا تجمعُ بين مضادَّين، ومَن ظنَّ
خِلاف ذلك، فإمَّا لِقلَّة علمه بالشريعة، وإما لِتقصيره في معرفة التماثُل
والاختلاف، وإمَّا لنسبته إلى شريعته ما لم يُنزلْ به سلطانا، بل يكونُ من آراء
الرجال، فبحكمتِه وعدلِه ظهر خَلقُه وشرعُه، وبالعدل والميزان قام الخلقُ والشرع،
وهو التسويةُ بين المتمائلَيْن، والتفريق بين المختلفَيْن.
وهذا كما أنه ثابت في الدنيا، فهو كذلك يومَ القيامة.
قال تعالى: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ
*مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ }[61].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعدَه الإمامُ أحمد
رحمه الله: أزواجهم أشباهُهم ونُظراؤهم.
وقال تعالى: {وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[62] أي: قُرِن كلُّ صاحب عملٍ بشكله ونظيره، فقُرِن بين المتحابِّين
في الله في الجَنَّة، وقُرِن بين المتحابِّين في طاعة الشيطان في الجحيم، فالمرءُ مع
مَن أَحَبَّ شاء أو أبَى، وفى «مستدرك الحاكم» وغيره عن النبي ﷺ: «لا يُحِبُّ
المَرءُ قَوْما إلاَّ حُشِرَ مَعَهُم».
والمحبة أنواع متعددة ؛ فأفضلها وأجلُّها: المحبةُ في
الله ولله ؛ وهى تستلزِمُ محبةَ ما أحبَّ اللهُ، وتستلزِمُ محبةَ الله ورسوله.
ومنها: محبة الاتفاق في طريقةٍ، أو دين، أو مذهب، أو
نِحْلة، أو قرابة، أو صناعة، أو مرادٍ ما.
ومنها:
محبةٌ لنَيْل غرض من المحبوب، إمَّا مِن جاهه أو من ماله
أو مِن تعليمه وإرشاده، أو قضاء وطر منه، وهذه هي المحبة العَرَضية التى تزول
بزوال مُوجِبها، فإنَّ مَن وَدَّك لأمر، ولَّى عنك عند انقضائه.
وأمَّا محبةُ المشاكلة والمناسبة التى بين المحب
والمحبوب، فمحبةٌ لازمة لا تزولُ إلا لعارض يُزيلها، ومحبةُ العشق مِن هذا النوع،
فإنها استحسانٌ روحانى، وامتزاج نفسانى، ولا يَعرِض في شيء من أنواع المحبةِ من
الوَسْواس والنُّحول، وشَغْلِ البال، والتلفِ ما يعرضُ مِن العشق.
فإن قيل: فإذا كان سببُ العشق ما ذكرتم من الاتصال
والتناسب الروحانى، فما بالُه لا يكون دائما مِنَ الطرَفين، بل تجدُه كثيرا من طرف
العاشق وحده، فلو كان سببُه الاتصالَ النفسى والامتزاجَ الروحانى، لكانت المحبةُ
مشتركة بينهما.
فالجواب:
أنَّ السبب قد يتخلَّفُ عنه مسبِّبه لفوات شرط، أو لوجود
مانع، وتخلُّف المحبة من الجانب الآخر لا بد أن يكون لأحد ثلاثة أسباب:
الأول: عِلَّةٌ في المحبة، وأنها محبة عَرَضية لا ذاتية،
ولا يجب الاشتراكُ في المحبة العَرَضية، بل قد يلزمها نُفرةٌ من المحبوب.
الثاني: مانعٌ يقوم بالمحِب يمنع محبة محبوبه له، إما في
خُلُقه، أو خَلْقِهِ أو هديه أو فعله، أو هيئته أو غير ذلك.
الثالث:
مانعٌ يقوم بالمحبوب يمنعُ مشاركته للمحبِ في محبته،
ولولا ذلك المانعُ، لقام به من المحبة لمحبه مثلَ ما قام بالآخر، فإذا انتفتْ هذه
الموانعُ، وكانت المحبة ذاتيةً، فلا يكون قَطُّ إلا من الجانبين، ولولا مانعُ
الكِبْر والحسد، والرياسة والمعاداة في الكفار، لكانت الرُّسُلُ أحبَّ إليهم من أنفسهم
وأهليهم وأموالهم، ولما زال هذا المانعُ من قلوب أتباعهم، كانت محبتُهم لهم فوقَ
محبة الأنفس والأهل والمال.
فصل والمقصود: أنَّ العشق لما كان مرضا مِن الأمراض، كان
قابلا للعلاج، وله أنواع مِن العلاج، فإن كان مما للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه
شرعا وقدْرا، فهو علاجه، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه،
قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا معشر الشَّبَاب ؛ مَن استطاع منكم الباءةَ فلْيتزوَّج،
ومَن لم يستطِعْ فعليه بالصَّوْم، فإنَّه له وِجَاءٌ». فدَل المحبَّ على علاجين:
أصلىٍّ، وبدلىٍّ. وأمره بالأصلى، وهو العلاج الذي وُضع لهذا الداء، فلا ينبغي
العدولُ عنه إلى غيره ما وَجد إليه سبيلا.
وروى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن
النبي ﷺ أنه قال: «لَمْ نَرَ للمُتحابَّيْنِ مِثْلَ النِّكاح». وهذا هو المعنى
الذي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرِهن وإمائهن عند الحاجة بقوله:
{يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفا}[63] فذكرُ تخفيفِه في هذا الموضع، وإخبارُه عن ضعف الإنسان يدل على
ضعفه عن احتمال هذه الشهوة، وأنه سبحانه خفَّف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء
مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ، وأباح له ما شاء مما ملكتْ يمينُه، ثم أباح له أن يتزوَّج
بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجا لهذه الشهوة، وتخفيفا عن هذا الخُلق الضعيف،
ورحمةً به.
فصل وإن كان لا سبيلَ للعاشق إلى وِصال معشوقه قدْرا أو
شرعا، أو هو ممتنع عليهِ من الجهتين، وهو الداء العُضال، فمِن علاجه، إشعارُ نفسه
اليأسَ منه، فإنَّ النفسَ متى يئستْ من الشيء، استراحت منه، ولم تلتفت إليه، فإن
لم يَزلْ مرضُ العشق مع اليأس، فقد انحرف الطبعُ انحرافا شديدا، فينتقل إلى علاج
آخرَ، وهو علاجُ عقله بأن يعلم بأنَّ تعلُّق القلب بما لا مطمع في حصوله نوعٌ من
الجنون، وصاحبه بمنزلة مَن يعشق الشمس، وروحُه متعلقة بالصعود إليها والدَّوَرانِ
معها في فلكها، وهذا معدودٌ عند جميع العقلاء في زُمرة المجانين.
وإن كان الوِصال متعذرا شرعا لا قدرا، فعلاجه بأن يُنزله
منزلة المتعذر قدرا، إذ ما لم يأذن فيه الله، فعلاج العبد ونجاتُه موقوف على
اجتنابه، فليُشعرْ نفسَه أنه معدوم ممتنع لا سبيلَ له إليه، وأنه بمنزلة سائر
المحالات، فإن لم تُجبْه النَّفْسُ الأمَّارة، فليتركْه لأحد أمرين: إما خشية،
وإما فواتِ محبوب هو أحبُّ إليه، وأنفع له، وخير له منه، وأدْوَمُ لَذَّةً وسرورا،
فإن العاقل متى وازَنَ بين نَيْل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظمَ منه،
وأدومَ، وأنفعَ، وألذَّ أو بالعكس، ظهر له التفاوتُ، فلا تبعْ لَذَّة الأبد التى
لا خطرَ لها بلذَّة ساعة تنقلبُ آلاما، وحقيقتُها أنها أحلامُ نائم، أو خيالٌ لا
ثبات له، فتذهبُ اللَّذة، وتبقى التبعةُ، وتزولَ الشهوة، وتبقَى الشِّقوة.
الثاني: حصولُ مكروه أشقَّ عليه مِن فوات هذا المحبوب، بل
يجتمع له الأمران، أعنى: فوات ما هُو أحبُّ إليه من هذا المحبوب، وحصولُ ما هو
أكرهُ إليه من فوات هذا المحبوب، فإذا تيقَّن أنَّ في إعطاء النفسِ حظَّها من هذا
المحبوب هذين الأمرين، هان عليه تركُه، ورأى أنَّ صبره على فوته أسهلُ من صبره
عليهما بكثير، فعقلُه ودينه، ومروءته وإنسانيته، تأمُره باحتمال الضرر اليسير الذي
ينقلِبُ سريعا لذَّةً وسرورا وفرحا لدفع هذين الضررين العظيمين. وجَهلُه وهواه،
وظلمه وطيشه، وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالبا عليه ما جلب،
والمعصومُ مَن عصمه الله.
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء، ولم تُطاوعه لهذه
المعالجة، فلينظر ما تجلبُ عليه هذه الشهوةُ مِن مفاسد عاجِلته، وما تمنعه مِن
مصالحها، فإنها أجلبُ شيء لمفاسد الدنيا، وأعظمُ شيء تعطيلا لمصالحها، فإنها تحول
بين العبد وبين رُشده الذي هو مِلاكُ أمره، وقِوامُ مصالحه.
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء، فليتذكر قبائحَ المحبوب،
وما يدعوه إلى النُّفرة عنه، فإنه إن طلبها وتأملها، وجدها أضعافَ محاسنه التى
تدعو إلى حبه، وليسأل جيرانَه عما خفى عليه منها، فإنَّ المحاسن كما هي داعيةُ
الح
ب سوبند
بريد سوبند هيتميل
الطلاق.بين سورة البقرة وسورة الطلاق؟ /البداية والنهاية. /ثبات شرع الله ودليل سوياند /موقع التجويد /سورة الزمر /جامعة المواقع المهمة /الكلم الطيب /8مدونة طلاق سورة الطلاق1. الجهاز المناعي م /المجاز والحقيقة /جامعة المواقع /مدونة اللغة العربية وروابطها /ديوان مصطلح الحديث۱. /ديوان الكتاب الإسلامي /الخلاصة العلمية والعائدون من الموت /الفتن والاهوال /أحكام ونظام الطلاق والعدة في الإسلام بعد نزول سورة الطلاق7هـ /8غريب القران سوباند /مدونة الزكاة والصدقات /نجوم مصطلح الحديث اا. /مكتبة التاريخ /المانجووو /مدونة تعليمية محدودة 3ث. /سورة الحج /المصحف الإملائي.وآية آية.وورد.وصور المصحف /الدليل /أهوال القبر ويوم القيامة /ديوان الطلاق حسب سورة الطلاق5هـ /مدونة توعية { أمراض الأطفال} /مدونة سورة يس. /خلفيات.